ما يسمي بقطاع الشمال وفى أول إختبار للعلاقات السودانية الجنوبية فى أديس أبابا سقط عمداً وليس سهواً. ففي ثنايا ملف الترتيبات الأمنية كان القطاع قد خسر الجولة تماماً بعد ما أصبحت تحركاته موضع رقابة، وقواته المتمثلة فى الفرقتين 9 و10 بجنوب كردفان والنيل الأزرق قابلة للذوبان. لقد كان تاريخ السابع والعشرين من سبتمبر الماضي علامة سياسية فارقة للقطاع الذى لم يجد قادته أمثال عرمان مناصاً من توجيه أقذع الانتقادات للإتفاق دون الاشارة الى الأطراف بصفة خاصة، وهو موقف مفهوم حيث تتجلي صعوبة إنتقاد الحركة الشعبية الجنوبية فى مثل هذه الظروف المدلهِمّة، فقد تراجع القطاع عن الملف الجنوبي، ولم يعد – منذ ذلك الحين – واحداً من إهتماماتها كما كان الأمر فى السابق. وبالطبع تعرف الحكومة الجنوبية – وبعمق شديد – أبعاد هذه الخطوة السياسية ومترتِباتها ومآلاتها، ولا نود أن نغالي هنا إن قلنا ان جوبا ظلت تدخر القطاع منذ إنفصال اقليمها لأشياء تخصها ولوقت تري أنه قد يحين، وهاهو الآن قد حان. ذلك أن الأمر المفصلي فى هذا الصدد، أن جوبا وبعد إنزال ورقة القطاع - دفعة واحدة - على مائدة أديس لم تعد قادرة عملياً على إستعادتها مرة أخري لأيِّ سبب، أو داعٍ، ولهذا فإن من المؤكد أنها فعلت ما فعلت وهى تدرك أنها تفعل ما يحقق لها مصالحها. ولعل الأسوا من كل ذلك أن الأمر لم يكن موضع تفاهم مسبق بين جوبا والقطاع حتى يبدو فى شكل صفقة سياسية ينال القطاع بموجبها أىّ مقابل مناسب ولا نقول كافياً ومجزي! وهو الأمر الذى أثار كوامن قادة القطاع وجعلهم فى حالة أقرب الى الذهول، فقد دخلوا فى عراك سياسي وعسكري كامل مع الخرطوم وصلوا فيه نقطة اللاعودة، وهاهم الآن وهم فى خضم الحراك يفقدون ظهرهم ودعمهم السياسي والعسكري بجرة قلم. أما قوى المعارضة السودانية وسواء من رحّب بالاتفاق على إستحياء أو أرفق معه نقداً مغلفاً أو ناهض الإتفاق، فهم جميعاً – بعد الاتفاق – أدركوا أنهم قد فاتهم قطاراً مهمّاً لا يتكرر. فالعلاقات السودانية الجنوبية شكّلت بالنسبة لهم ورقة سياسية مهمّة لطالما راهنوا عليها. ففى مخيلة هؤلاء أن مجموع القطاع الممزوج بالدعم الجنوبي والجبهة الثورية وحركات دارفور كافية للغاية لإسقاط النظام الحاكم، لم يكن ينقصهم سوي أن تنهار المفاوضات فى أديس أبابا وأن يشرع مجلس الأمن فى التدخل تحت الفصل السابع، وأن تتصاعد وتيرة المواجهات على الحدود. هذه الحسابات جرت فى أذهان وعقول قوى المعارضة مراراً وتكراراً وفى كل مرة كانت حساباتهم توصلهم الى نتيجة واحدة، أنهم فائزون دون شك وحاصلون على مبتغاهم، ولطالما طمأنهم عرمان بأنه إذا لم يتم الحل عن طريق العمل العسكري على الجبهات المختلفة فإنه سوف يتم فى المفاوضات الجارية بين القطاع والخرطوم، وأنه – فى الحالتين – سيجدون مبتغاهم. الآن إنهارت الآمال وتراجعت الأمنيات بطريقة دراماتيكية مدهشة، فقد عادت الدماء الى شرايين العلاقات السودانية الجنوبية بمجموعة إجراءات وتفاهمات بدا وكأنّ هدفها الأساسي ان تقضي على كافة أشكال التوتر الأمني بين البلدين بما فى ذلك حراك المعارضات السياسية والمسلحة. لم يكن أكثر الساسة تفاؤلاً يتوقع ان تصل الخرطوموجوبا لملامسة العصب السحري الحساس الواصل الى قوى المعارضة وأن يجهز الطرفان على ما تبقي من روح وحياة فى أوصال القوى المعارضة. لقد نزل الأمر نزول الصاعقة على القوى المعارضة ولم تجد بُداً من الترحيب (الخجول) بالإتفاق مخافة أن يتعاون الطرفان على محاصرتها بأكثر مما هو منتظر. ولهذا فإن الأيام القليلة المقبلة ستشهد المزيد من التساقط المتتالي لقوى المعارضة السياسية والمسلحة معاً بفعل (المبيد السياسي) القاتل الذى أسفرت عنه مفاوضات أديس وبات يهدد (يرقات) وشرنقات الطرفين سواء فى طورها المائي أو الطور الطائر، وتلك هى أسوأ خاتمة لمن راهنوا على معطيات وفرضيات متحركة.. ووضعوا عليها كل آمالهم وأحلامهم!