من الصعب استحضار ذكرى 14 شباط، مع كل ما حملته من تغييرات في لبنان، من دون استحضار الشعارات التي ارتفعت كرد فعل على الجريمة التي ارتُكبت في ذلك اليوم الحزين. والذين ينزلون اليوم الى قلب بيروت، الى الساحة التي بات اسمها هي ايضاً شعاراً (ساحة الحرية)، ليستعيدوا شعارات «الحرية والسيادة والاستقلال»، ورفض اي سلاح خارج سلاح الشرعية، لا بد من أنهم يستعيدون كذلك التطورات التي حفلت بها السنوات الخمس الماضية، ويشعرون من دون شك ببعد المسافة بين شعارات ذلك النهار وما نحن وهُم عليه اليوم. وأين نحن اليوم؟ سعد الحريري نجل رفيق الحريري هو الآن رئيس حكومة لبنان، العائد من لقاء الرئيس السوري بشار الاسد. الضباط الاربعة الذين رُفعت صورهم والاتهامات هم الآن خارج السجن والاتهام، بعد «اخلاء سبيلهم». «تيار المستقبل» وحلفاؤه يجلسون الى جانب خصوم الامس على طاولة حكومة الوحدة الوطنية، بعدما عجزوا عن ترجمة بياناتهم الانتخابية في بيان وزاري يعكس رأي الاكثرية الشعبية التي صوّتت لهم. انجبت الحشود التي انهمرت الى الساحات بعد شهر على اغتيال الرئيس رفيق الحريري ما ارادت أن تطلق عليها «ثورة الارز». حملت راياتها ورفعت هتافاتها، ثم اطلقت حراكاً سياسياً وطنياً ضم قيادات من معظم الطوائف. وكان مؤملاً من 14 آذار أن تؤسس للاستقلال الثاني، كي ينهض على انقاض التحرر من الوصاية الخارجية، مثلما نهض الاستقلال الاول على الانقاض ذاتها. وفي بلد لم يبلغ فيه تعريف معنى الاستقلال درجة الالتفاف الوطني الشامل من حوله، كان من الطبيعي أن يأخذ الخلاف على هذا المعنى في طريقه شعار السيادة ايضاً، ذلك الشعار الذي بدا جذاباً عام 2005 مع نهاية الاحتلالات والوصايات. غير ان تطورات هذه السنوات الخمس لم تُجهض فكرة الاستقلال وحدها، بل طرحت ايضاً اسئلة صعبة حول مفهوم السيادة الوطنية، عندما تبلغ ارتباطات الاحزاب والسياسيين بالخارج درجة كبيرة من الالتزام، تصل في معظم الاحيان الى حد الوصاية. وكان طبيعياً ان يصاب مفهوم السيادة في الصميم بفعل هذا الولاء للخارج من قبل معظم اهل السياسة. فإعادة اللحمة الوطنية، بعد التصدع الذي اصابها كنتيجة لاغتيال الحريري، اقتضت تقديم التنازلات على حساب هذا المفهوم، وهو ما يجعل شعار السيادة والاستقلال يبدو باهتاً اليوم مقارنة بما كان عليه بالأمس، في فترة الحلم الوردي الجميل. لهذا بدا هبوط رئيس الحكومة سعد الحريري من سلّم شعارات 14 آذار الى محطة الواقع الحالي، في حديثه التلفزيوني عشية الذكرى، وكأنه محاولة لإيقاظ الحشود، التي ما زالت حناجرها متعلقة بشعارات الامس، من حالة الحلم التي اصابتها الى حالة الحكم، الذي لا يستقيم الا بالتعامل مع مقتضيات الحالة الراهنة وما تفرضه «حقائق التاريخ والجغرافيا»، حسب تعبير الحريري، تلك الحقائق التي بدا وكأن جميع من احتشدوا في «ساحة الحرية» في المناسبات الماضية التي جرت فيها الاحتفالات بذكرى استشهاد الحريري كانوا غافلين عنها. ليس هذا فقط، بل ان سعد الحريري بدا في حديثه وكأنه يدعو الى حالة طلاق مع السياسة والانتباه لشؤون الناس، الذين لا يشبعون من «سندويش سياسة» على حد وصفه. حالة الطلاق هذه بين السياسة والاقتصاد هي التي أرهقت رفيق الحريري الذي كان مطلوباً منه ذات يوم، هو ايضاً، أن يتفرغ للشأن المعيشي والاقتصادي، وان «يترك السياسة لأهلها». وهناك من يقول ان عدم تفرّغ الحريري الأب لذلك الشأن كلّفه غالياً. اذا كان من درس يمكن استنهاضه من ركام شعارات 14 آذار فهو ان تحقيق السيادة في أي بلد يحتاج الى سياديين. ليس واحداً او اثنين، بل يحتاج الى قناعة شبه شاملة بأولوية تحصين البلد في وجه مصالح الخارج واهوائه، وهي موجودة في المحيط المجاور لأي بلد. من دون هذا التحصين تظل السيادة شعاراً ومثلها الاستقلال، ذلك الشعار الثاني الذي ما فتئ اللبنانيون يبحثون عنه منذ «استقلالهم». من غير ذلك تبقى مناسبة 14 شباط ذكرى اليمة، لكنها لا تنتج انطلاقة وطنية كما كان مؤملاً منها، والسبب أنها اضطرت، عند المفترق الاول، ان تخضع امام واقع الارتباط الخارجي لفريق اساسي من فرقاء المكوّن الوطني. المصدر: الحياة 14/2/2010