من النادر للغاية أن ينتقد حزب حاكم - بهدوء وموضوعية - أحزاباً تعارضه وتتربص به بإستمرار طالباً منها -فى سياق نقده- التوصل لخطاب مشترك يمكِّنها من لعب دور موحد. ذلك أن تشتُّت وتشرذُم القوى المعارضة أمر من المؤكد أنه يناسب أيّ حزب حاكم، فهو يشغل الخصوم بأنفسهم ولا يمنحهم الفرصة لمشاكسته . غير أنَّ هذه القاعدة ظلت تجد إستثناءاً نادراً فى السودان، فقد طالب القيادي البارز فى المؤتمر الوطني الحاكم فى السودان الدكتور قطبي المهدي منتصف الاسبوع الماضي، قوى المعارضة السودانية بالإلتفاف حول القضايا الوطنية المهمة وتحديد أهدافها القومية الاستراتيجية وبناء إرادة حوار سياسي مشترك فيما بينها على الاقل، حتى يتسنّى لها خلق تأثير جماهيريّ، مشخِّصاً حالة الاحزاب السودانية بأنها تعاني من غياب المؤسسية. هذا النقد الهادئ والموضوعي، الخالي من أيّ تجريح سياسي هو دون شك جدير بجذب إنتباه قوى المعارضة السودانية والتأمل فيه، وبالطبع ليس لأن الحزب الحاكم يسخر منها أو يريدها أن تظل هكذا على حالة الكساح التى هى عليها، ولكن لأن قضية البناء الوطني الشاملة ومهما كانت مقدرات الحزب الحاكم تتطلب وجود قوى سياسية معارضة فى الساحة لديها وعي حقيقي وواقعي بقضايا البلاد الكلية وتعرف وزنها وتستطيع ان تحدث التأثير الجماهيري. من المؤكد ان المؤتمر الوطني - ودون أن نستلف لسانه - يتمنى فى قرارة نفسه ان ينجح فى ترسيخ ممارسة ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة عبر أحزاب سياسية حقيقية تنطلق من محددات ثابتة وقضايا أساسية متفق عليها ثم تختلف ما شاءت لها الظروف أن تختلف فى الرؤي التفصيلية والفروع والحواشي الصغيرة. العلة بالنسبة لقوى المعارضة السودانية هو أنها ما تزال تراهن على جماهيريتها القديمة وهى جماهيرية معترف بها، ولكن كم من المتغيّرات والمعطيات تدفقت بغزارة فى الساحة السياسية السودانية طوال العقدين الماضيين؟ كم من المواقف والولاءات السياسية تغيرت وتبدلت حتى داخل غرف القيادة فى تلك الأحزاب؟ كم من حزب من هذه الأحزاب المعارضة استطاع عقد مؤتمرات حقيقية مؤثرة جدّد فيها أثاثاته السياسية ولون الجدار والأفكار والرؤى؟ كل الذي نراه اليوم تهديد هنا ووعيد هناك، وإدعاء هنا ومزاعم هناك، والأنكى من كل ذلك أن قوى المعارضة تعتقد أنها هى البديل الذى لا خلاف حوله للسلطة الحاكمة. حسناً، لو كان الأمر كذلك ما الذى حالَ بينها وبين إحداث إختراق فى الاستحقاق الانتخابي المنصرم فى العام 2010م ؟ الإدعاء بالتزوير؟ فى أيّ محضر قضائي ثبت وقوع تزوير فى عملية الانتخابات الشاملة؟ ولماذا لم تعمل هذه القوى بكل عنفونها من أجل تضييق الخناق على الوطني للحيلولة دون التزوير؟ وهل يُعقل -مهما كان سوء ظننا بالوطني وإيماننا بقدراته الخارقة- أن يزوِّر إنتخابات ذات مستويات ثلاث ومراقبة محلياً وإقليمياً ودولياً؟ إنَّ حزباً يستطيع ان يفعل ذلك فى كل هذا الزخم والخضم والحضور الدولي الكاسح ليستحق بجدارة أن يحكم. ولندع جانباً هذا الادعاء؛ أوَلَم تسنح لقوى المعارضة سانحة المشاركة فى حكومة القاعدة العريضة قبل حوالي عامين؟ هل من سياسي ذكي يرفض المشاركة فى الحكومة جنباً الى جنب مع رصفائه من أحزاب المعارضة الأخرى قاطبة؟ هل من المألوف ان تتوجس أحزاب يتجاوز عددها ال20 حزباً من حزب واحد؟ وهل من المنطقي أن تتخوف أحزاب تزعم أنها ذات جماهيرية راسخة وخبرة قديمة جيِّدة، من حزب واحد؟ إن من المؤكد ان قوى المعارضة السودانية لا هي قدر التحدي الماثل أمامها لإسقاط الحكومة، ولا هي قدر الفرص والسوانح التي قُدمت لها على طبق من ذهب لكي تغيِّر السلطة من خلال وجودها الكثيف فيها. وهو أمر يستغرب له العالم بأسره منذ سنوات، فالذي يجرِّب حمل السلاح ويفشل ويجرب العمل السياسي ويفشل، ويرفض المشاركة المفضية الى التغيير بدون مبررات ويخوض الانتخابات ويفشل ماذا يمكن أن يُنتظر منه؟ لقد بدا المؤتمر الوطني -وهو محق- مشفقاً كل الإشفاق على هذه القوى المعارضة التى أقصى ما تفعله هو أن تدلي بالتصريحات التى ألِفها القراء فى الصحف وصاروا تعاملون معها شأنها شأن عناوين الجريمة فى صفحة الحوادث، أمراً يومياً متكرراً ومعتاداً لا يقدم ولا يؤخر. وهو دون شك إشفاق مشروع، فالحياة السياسية فى السودان لا تقوم على رؤية سياسية واحدة، وحتى لو إفترضنا أن قوى المعارضة تنتظر -ولو بعد قرن- سقوط الحكومة الحالية لتأتي هى وتجلس على المقعد، فهي لا تضع فى حساباتها إحتمال ظهور منافسين آخرين من غير صفّها الواهن، فالعمل السياسي هو فعل متجدد ومستمر، وحواء السودانية ودود ولود، ومن المؤكد أن أعمار قادة المعارضة الحاليين فى الأمة القومي والشعبي والاتحادي والشيوعي والبعث، وحتى فى الأحزاب الأقل وزناً لا تسعفهم للعب دور حتى ولو بعد عام أو عامين. هم قادة إنتهت صلاحيتهم، وقادة الصف الثاني ليست لهم خبرات الكهول بفعل غياب المؤسسية، فيا ترى، هل يستجيبون؟