تحليل سياسي لأسابيع تضمنت ليالي وفى أنحاء مختلفة من السودان طولاً وعرضاً انعقدت المؤتمرات التنشيطية المختلفة للحزب الوطني الحاكم فى السودان أكثر الأحزاب السودانية - بحسب العديد من المراقبين، بل والخصوم - تنظيماً وقدرة ودينامكية. البعض ممن تابعوا هذه المؤتمرات لم يتعدَّ نظرهم اليها كونها مجرد تظاهرة سياسية لإعادة تنشيط دورة الحزب الدموية عقب العديد من الأزمات والصدمات التى واجهها بما خلف أوجاعاً فى جسد من المؤكد أنه منهك. بعضٌ آخر لم يولوا أدني اهتمام لهذه المؤتمرات ولم تشغلهم سوي بعض عبارات النقد وبعض المواقف التى ترد على لسان قادة الحزب ويتلقونها كمتلقين باعتبارها فى عداد التصريحات السياسية المعتادة. وهكذا فان الكل تراوح نظرهم مابين مهتم وغير مهتم، أو حانق على ما يسمع من تصريحات بعضها لا يخلو من حدة. غير ان الامر وفق متابعاتنا الدقيقة أبعد وأكثر عمقاً من ذلك كله، ففي الوقت الذى تقر فيه الأحزاب والقوي السياسية السودانية قاطبة بضعفها وهوانها وتراوح مكانها ما بين إخفاقها فى إقصاء الوطني او المشاركة معه وقبول دعوته لتشكيل حكومة قاعدة عريضة، وما بين الرضوخ للأمر الواقع الى حين حدوث معجزة فى زمن قلَّت فيه المعجزات، فان الحزب الوطني بمهارة يحسده عليها خصومه عمل بالقاعدة الأصولية التى تحض المرء للنظر فى نفسه (الرابح من دان نفسه) لمعاجلة ما يكون علق بها. لقد كان الحزب الوطني يعيد ترتيب أوراقه وهو يستشعر تباعد المسافات بينه وبين القوى السياسية، ليس للخلافات المعروفة والغبن الدفين لهذه القوي تجاهه، و لكن لإدراكه ان هذه القوى تود الوقوف عند محطة واحدة لا تستطيع مغادرتها وتجاوزها والعودة للعبة القديمة. ذات الأحزاب بذات رؤاها القديمة، وذات اعتقادها السياسي القديم بأنها صاحبة الأغلبية وسيدة الحكومات الائتلافية، تريد ان تعود لذلك الماضي، بعد ان ينزوي الوطني ويتلاشي مفسحاً لها المجال على غرار ما فعلت لنظام الرئيس الراحل إبراهيم عبود والرئيس الراحل نميري . الحزب الوطني يعلم انه ليس مجرد حزب حاكم وإنما هو نسيج وضفيرة قوية من سودانيين ليسوا بالضرورة حركة إسلامية وهذه النقطة للأسف الشديد لا تزال عصية على الفهم على بقية المكونات السياسية. هم يعتقدون ان المؤتمر الوطني هو الجبهة الإسلامية القديمة او جبهة الميثاق او الاتجاه الاسلامي بينما الامر غير ذلك، فالمتغيرات السياسية والسنوات الطوال التى انصرمت كان لها مفعول السحر فى تجذير هذا الحزب داخل التربة السياسية السودانية . غير ان الأكثر أهمية من ذلك ان الحزب الوطني مارسَ نقداً ذاتياً نادراً وسط القوى الحزبية لم يعرف قط فى أدبيات السياسية السودانية ؛ وجعل من مؤتمراته هذه سانحة لإصلاح نفسه أمام الجميع وفى الهواء الطلق وعمل على غربلة رؤاه وسياسياته ومواقفه ولامس حتى فكره وثقافته بشافية من المؤكد حسده عليها خصومه . هذا الوضع جعل الحزب يعيد تشييد نفسه من جديد بينما القوى السياسية تتفرج. هو يعيد نفسه لمرحلة يعلم أنها صعبة والقوى الحزبية لا تشعر بما يفعل .هو يجتاز حاجز الخوف الجماهيري و يمارس المعارضة بداخل مؤتمراته ويعدل ويغير ويبدل، والقوى السياسية تبتسم وتظن انه يجلد ذاته ويتراجع! من المؤكد ان من لم يفهموا لن يفهموا قط !