كلّما تناهى إلى سمع المعارضة السودانية حدثاً، أو تظاهرة أو موقفاً أو منعطفاً من المنعطفات سارعت بلبس حذائها المهترئ لتكون في منصة استقبال السلطة التي سوف تأتي إليها. لم يسطر التاريخ طوال الثلاث وعشرون سنة الماضية ولو (ربع تظاهرة) قادتها القوى المعارضة حتى ولو في شارع جانبيّ أو فرعيّ في حي من الأحياء الطرفية في أيّ مدينة من مدن السودان على اتساعه. قوى المعارضة هي نفسها – وبلسانها – تقول إنها غير قادرة على القيام بفعل إيجابي بمبادرة منها وأنها تنتظر الطلاب وبعض مكونات المجتمع ليتقدموا لها في التظاهر والمسيرات لتكون هي المعنية -فقط- بإستلام السلطة وإعداد الوثيقة الدستورية وتطبيقها. قوى المجتمع السوداني وفئاته ومنظماته تنشغل بحاضر السودان ومستقبله وتناقش قضاياه، وقوى المعارضة منشغلة بكم يكون رأس الدولة، شخص واحد أم عدد من القادة والرؤساء؟ ومن يتولى رئاسة المجلس؟ الأمر شبيه بفلاسفة روما وقصتهم الشهيرة ولعل الفارق الوحيد أن فلاسفة روما على أية حال كانت رؤاهم وآراؤهم الفلسفية ذات فائدة ولو على مستوى واقعهم ذاك. من الغريب جداً أن قوى المعارضة لا تفكر في استراتيجية موضوعية جادة لخوض الاستحقاق الانتخابي المقبل إن كانت حقاً تود المحافظة على البناء الوطني الديمقراطي. ربما كانوا يعتقدون أنها (حياة طويلة) أن ينتظروا ثلاثة أعوام أخرى، مع أن عدم الإعداد والاستعداد هذا كان له القدح المعلّى في فشلها الذريع في الحصول على ثقة الناخب السوداني في إنتخابات 2010 ، ما الذي يجعلها تعتقد أنها ستكون بديلاً؟ بل إن السؤال المنطقي الذي من المؤكد فات على فطنة أصحاب الوثيقة الدستورية من أين استقوا فرضية أنهم (البديل الوحيد الجاهز) لوراثة السلطة الحالية الحاكمة؟ ولهذا هم يعدّون ويستعدون بأوراقهم ووثائقهم! إن الأحزاب والقوى السياسية لا يُعهد إليها بإدارة الدولة، هكذا تلقائياً وبعملية ميكانيكية، بل لا ينبغي إن تفكر هذه القوى السياسية في أنها ستقود المراحل الانتقالية إذا قُدر لهذه المراحل أن تجد طريقها إلي الواقع السوداني قريباً أو بعد حين، وذلك ببساطة لأن فرضية الجلوس على مقعد السلطة مرتبطة بفرضية الاختيار الشعبي بالنسبة للأحزاب السياسية. لا يمكن لأحزاب سياسية أن تضلع بحكم فترة انتقالية ثم تخلع جبة فترة الانتقال لترتدي جبة انتخابات لتصبح هي الحاكم المنتخب بعد ذلك! هي بالتأكيد (خدعة كبرى) تمارسها هذه القوى الحزبية بوعي أو بغير وعي على السودانيين ظناً منها أن السودانيين ما يزالوا وقوفاً في العام 1986 وأن التاريخ منذ ذلك الحين لم يتحرك قيد أنملة. لقد إنطوت صفحات التاريخ ذاك بدورته الخبيثة منذ أن قبلت كافة القوى السياسية السودانية -دون أدنى استثناء- خوض الاستحقاق الانتخابي المفصلي في العام 2010 فهي إرتضت أن يؤسس ذلك الاستحقاق لواقع سياسي جديد في السودان، بعد سنوات من الشد والجذب بينها وبين السلطة الحاكمة. واقع أفرز وضعاً مغايراً تماماً لما كان سائداً في السابق من إسقاط حكم غير مرضي عنه ثم إقامة فترة إنتقالية ثم إجراء انتخابات تعود بعدها ذات الأحزاب بذات الوسائل وذات العقلية المشاكسة لتحكم وتشيع الفوضى ثم يقع تغيير، يزيحها عن السلطة جراء الفوضى وغياب المسئولية. هذه السلسلة المطولة المثيرة للضيق، لم تعد مقبولة ولم يعد السودانيون يطيقونها وهي في الواقع أحد أهمّ وأبلغ الأسباب التي جعلتهم يعرضون إعراضاً تاماً عن خوض أيّ تجربة تغيير بالوسائل السابقة وقد جرّبت قوى المعارضة ذلك مراراً وتكراراً ولم تجد أحداً يقف مسانداً لها. السلطة الحالية الحاكمة ليست مبرأة من الأخطاء كما أنها في حاجة إلى الإصلاح والتطوير كأمر طبيعي في مسار التطور السياسي الجاري في البلاد، ولكن بالمقابل ما من عاقل مهما بلغ من الخصومة والعداء السياسي يساوره إعتقاد أن الوسيلة المثلى للإصلاح والتغيير هي وسيلة غير صناديق الإقتراع. إن قوى المعارضة السودانية درجت على مخادعة نفسها وتخادع الآن السودانيين عامة، وفى كل مرة ترتد مخادعتها عليها لتجبرها على إبتلاع تصريحاتها ومواقفها وإنتظار السراب