لا يُعرَف على وجه الخصوص لماذا تثير قضية الدستور لدى القوى السياسية المعارضة فى السودان كل هذه الدرجة من الحساسية. قوى المعارضة ظلت بإستمرار ترفض تلبية الدعوة الموجّهة لها من قِبَل الحكومة السودانية للتشاور حول الدستور الدائم. بعض منظمات المجتمع المدني ذات الطابع اليساري وصلت بها الأزمة الى درجة تقديم مذكرة الى مفوضية حقوق الإنسان بالخرطوم، تطالب فيها بما أسمتها الحماية من تغول السلطات السودانية عليها جراء ممارسة دورها التوعوي بشأن الدستور. أقصى ما تقوله هذه القوى حين تُسأل عن رفضها المشاركة فى التشاور بشأن الدستور، أنها لا تريد أن تكون (زينة) للحزب الوطني، تشارك ثم تفاجأ بغير ما شاركت به. الأمر على هذا النحو لا يبدو منطقياً. أولاً، دعوة الوطني –كما عبّر عنها الدكتور نافع على نافع مساعد الرئيس السوداني– ليست دعوة لصياغة الدستور وإنما هي دعوة للتشاور حول كيفية كتابة دستور جديد وطبيعة الرؤى المطلوبة وكيفية إنشاء وتكوين اللجان المختصة، وهذه خطوة تمهيدية كان ولا يزال بإمكان القوى المعارضة أن تشارك فيها حتى إذا لم يرق لها الأمر فى أيّ مرحلة من المراحل سارعت بالخروج وتبيان أسباب ذلك موثقة ومدعمة بالأسانيد؛ وذلك لأن الرفض المسبق إن هو إلا رفض للمشاركة فى عمل وطني يخص الدولة السودانية حاضراً ومستقبلاً، وليس عملاً خاصاً بالمؤتمر الوطني. إفتقاد المواطن السوداني لقوى المعارضة فى عمل وطني مهم كهذا يخصم أكثر من ما تبقى من رصيد قوى المعارضة. ثانياً، على فرض أن ما قد تساهم به قوى المعارضة لن يظهر فى الصياغة النهائية للدستور؛ فإن المهم هنا هو ما عبّرت عنه المعارضة وما ارتأته موثقاً فى وثائق اللجنة الخاصة بالدستور بصرف النظر عما إذا كان ذلك قد وجد المقبولية من آخرين أم لم يجد؛ ذلك إن من مقتضيات الممارسة الديمقراطية – في أبسط صورها – هو أن يشارك الطرف المعني برأيه وأطروحاته ويدافع عنها ثم يرضخ فى خاتمة المطاف بما يقرّه الرأي الغالب. وبالطبع ليس من الديمقراطية فى شيء أن يزعم زاعم أنه لا بد أن (يضمن) أنّ رأيه سيؤخذ به مائة بالمائة قبل أن يشارك! لو كانت تلك الديمقراطية –أي ضمان تمرير الرأي بكامله– لما كانت ديمقراطية. ثالثاً، على فرض أنّ ما ارتأته هذه القوى أيضاً لم يجد الاعتبار لدي الوطني وخرجت المقررات النهائية برأي الوطني وحده، فإن هذا في الواقع لا يقدح في قوى المعارضة فى شيء ولا يضيرها بشيء إذ أن بوسعها – حين تُتاح لها الفرصة للحكم أن تقرر ما تريد وأن تمضي ما تراه هي ؛ ذلك مع عدم منطقية هذه الفرضية، حيث لا يمكن لعاقل أن يتصور أن الوطني سوف يقول إن الدستور الذي جري إخراجه، تمَّ بناء على رؤية قوى المعارضة؛ على العكس سوف تشير مضابط المناقشات الى رؤى القوى المعارضة، وهذا يكفي لحفظ حقوق القوى المعارضة. إن الأزمة الحقيقية فى اعتقادنا ليست على هذا الصعيد وإنما على صعيد مخاوف قوى المعارضة -وهي أشتات لا يربط بينها رابط- من أن تنفضح مواقف مكوناتها وتتوزع ما بين يمين يميل الى أحكام الشريعة الإسلامية – بفعل طبيعة أفكارها، ويسار يميل الى العلمانية، وكل مكوّن من هذين المكونين يخشى أن يُوضَع فى امتحان كهذا يضطر فيه للإفصاح عن مكنوناته فتطاله خسائر سياسية فادحة. هذه هي الأزمة وليست أيّ شيء آخر.