كما كان متوقعاً، فقد أعادت قيادات الجبهة الثورية ركل الكرة الى قادة الأحزاب المعارضة حين أكدت أن الموقعين على وثيقة الفجر الجديد كانوا مفوَّضين، وأن التوقيع سبقته مداولات قام بها قادة كبار من هذه الأحزاب ذهبوا الى كمبالا سراً قبل التوقيع. قادة الأحزاب (المتنصلة من الاتفاق) لم يستطيعوا –حتى ولو بمنطق معوج– نفي التداول، والعلم بالتفاصيل، وتفويض ممثليها؛ فالسيد الصاد المهدي رئيس الأمة القومي وفى حوار أجرته معه صحيفة المجهر السياسي –الخميس الماضي– أقرَّ بموافقتهم على لقاء كمبالا، وأقر بإبتعاثهم صلاح منّاع واعتبر المهدي –على طريقته المتحذلقة المعروفة– أن مناع مكلف رسمياً من الأمانة العامة لينوب عن الحزب ولكنه –بحسب المهدي– اجتهد فى قبول الكثير من النقاط التى تمثل رأي حزب الأمة، ولكن هناك نقاطاً غير مقبولة! أنظر كيف أضاف المهدي التراب والماء الى الطين العالق بثياب الحزب! فقد أقرّ بتفويض مناع رسمياً من أمانة الحزب ولكنه لم يحدد تفويضاً على ماذا، وبدلاً من أن يقول مباشرة وصراحة إن مناع لم يكن مفوضاً أصلاً لمناقشة المشروع لا من قريب ولا من بعيد؛ قال إن مناع (اجتهد) فى قبول ما يتوافق مع الحزب! أيّ كارثة أكثر من هذا؟ رجل راشد وسياسي تختاره الأمانة بعناية فى شأن خطير كهذا، يقول زعيمه انه اجتهد فى قبول ما يوافق رؤى الحزب! والرجل وافق على (كل ما ورد بالوثيقة) ليصبح الأمر هنا واحد من أمرين: إما أن مناع لا يعرف أصلاً ما يتوافق مع رؤى الحزب وهذه كارثة ماحقة وفي الوقت نفسه لا تصلح مبرراً للتنصل من الوثيقة؛ وإما أن ما وافق عليه مناع هي فى الحقيقة – وحتى ولو خجل منها الحزب – هي رؤية الحزب، وهذه أيضاً لا تصمد كمبرر أمام المنطق السياسي! ويبدو أن المهدي وتحت ضغط الأسئلة المنطقية التى جُوبه بها جراء منطقه المهتزّ أضطر لإعطاء الحدث صفة مغايرة فزعم أن مناع شارك ووقع ولكنه كان يعلم أن (المصادقة) تأتي من الجهة التشريعية بالحزب! أي أن المهدي اعتبر توقيع مناع توقيع مبدئي (بالأحرف الأولى) وان التوقيع النهائي إنما يتم عبر المصادقة التى تقوم بها الجهة التشريعية في الحزب، ولكي (يدرأ) الخلل السياسي فيما قاله فإن المهدي ضرب لنا مثلاً بميثاق محكمة الجنايات الدولية التى قال إن السودان وقع عليها مبدئياً ولكنه لم يصادق عليها بواسطة أجهزته التشريعية الوطنية، الأمر الذي يجعل من توقعيه توقيعاً غير معتبر قانوناً. أنظر المدى السحيق الذى حلّق فيه المهدي؛ فبينما كان يقول أن مناع غير مفوّض، عاد ليقول إن ما قام به مناع هو (أمر مبدئي) ما ينبغي أخذه مأخذ الجد إلا بعد مصادقة الحزب رسمياً عليه! يا لسوء حظ مناع هذا الذي (لا يعرف الإجراءات الصحيحة فى الموافقة على مشروعات ووثائق التحالف) ولا يعرف أيضاً (حدود تفويضه) ولا يعرف طبيعة رؤى ومواقف حزبه فيوافق على وثيقة (غير مقبولة) للحزب! الحزب الشيوعي هو الآخر قال عبر سكرتيره العام محمد مختار الخطيب إنّ ممثله هناك صديق يوسف لم يكن مفوضاً ولا ممثلاً للحزب وإنما هو يمثل -وقتها- قوة الإجماع. والأكثر غرابة يقول الخطيب إن صديق يوسف ذهب لطرح وثيقة البديل الديمقراطي! بمعنى أن القيادي صديق ذهب ليبيع فإذا به اشترى! الشعبي هو الآخر أسهب وأفاض فى عدم التفويض هذا، وقال كلٌ من القيادي كمال عبد السلام وأبو بكر عبد الرازق – كلٌ على حدا – إن من وقع نيابة عنه لم يكن مفوضاً! وأضاف عبد الرازق أن حزبه يعترض على أغلب ما ورد في الوثيقة ولم يقل كل الوثيقة! وهكذا، تصبح هذه هي المرة الأولى فى التاريخ التى تنجح فيها قوة متمردة في (إجبار) ممثلين لكل الأحزاب المعارضة فى التوقيع على وثيقة وهم لا يحملون تفويضاً من أحزابهم. هم جاءوا للتفاكر والمناقشة وبيع بضاعة البديل الديمقراطي فإذا بالبضاعة يصيبها البوار، وإذا بقادة الثورية يبيعونهم بضاعة جديدة بشيكات سياسية مؤجلة وثمناً باهظ، باهظاً للغاية!.. ترى ما السر في نجاح قادة الثورية (الأقل خبرة وجماهيراً) في إقناع ممثلي الأحزاب بالوثيقة!