الخرطوم تدخل موجة من الاشتعال والحرارة تتجاوز ما اعتادته صيفاً برغم الشتاء ، حرارة ربما كانت مدفوعة بحمى الفشل الذي اصاب مفاوضاتها مع جوبا بأديس ابابا في مقتل الى حين .. ليتزايد العرق بانفعالات الخرطوم ومحاولاتها كسر جدار الحيرة وتفكيك طلاسم الموقف الامريكي ، الذي بلغ ذروة تناقضه بما رشح بشكل مريب و تناقلته الصحف عن عزم واشنطون ترتيب اجتماعات للجبهة الثورية في مارس المقبل لأغراض التنسيق مع قوى المعارضة لإسقاط النظام. مشهد التناقض بدا جلياً مع آخر المواقف الرسمية الامريكية التي عبرت عنها سفارة واشنطون في الخرطوم الجمعة الماضية ببيان رسمي أوضحت فيه رفضها لاتهامات الخرطوم لها بالوقوف وراء ميثاق (الفجر الجديد) الذي وقعته المجموعات المسلحة وأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني وناشطين في كمبالا عاصمة يوغندا مطلع الشهر الجاري ، وأنكر البيان علاقة الادارة الامريكية بالأمر ، وقال إن الولاياتالمتحدة لم تشارك في رعاية أو تمويل أو تنظيم أو نتائج الاجتماعات التي عقدت مؤخراً في كمبالا بين الجبهة الثورية وقوى الإجماع الوطني ، وشدد البيان على أن رسالة واشنطون لجميع الأطراف السودانية ثابتة وتتمثل في أن الصراعات لا تُحل إلا بالحوارات السياسية والمفاوضات ، وأكد البيان عدم جدوى أي حل عسكري للصراعات في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور ، وأضاف (معاناة ملايين السودانيين من هذه الصراعات جاء نتيجة للفشل في إيجاد حل سلمي) . وضوح عبارات البيان ونفيه السريع في اعقاب اتهامات الحزب الحاكم بالخرطوم ، بدا كمحاولة أمريكية للإفلات من دور المتهم المفروض عليها من اسلاميي الخرطوم كلما برز حديث أو موقف عن تغيير النظام في الخرطوم أو كلما اعترت المعارضة انتعاشة فجر.. مراقبون يرون أن المشهد يعبر عن الطبيعة الاصيلة للإدارة الامريكية باللعب على كل الاطراف وبكل الأطراف ، ويذهبون الى أن واشنطون تتخوف من انتصار للمعارضة يتيح وصول نظام جديد يكون سجله في المجتمع الدولي خالياً من المخالفات والتجاوزات ، ويعبر عن المصالح الوطنية الاصيلة للسودان وبالتالي يصعب تمرير الاجندات الخارجية عليه أو فيه، لذا فهي تسعى لاحتواء الحركات المسلحة والمعارضة ومعرفة خطواتهم وقياسها بمسطرة المصالح الامريكية .. بينما يرى آخرون أن واشنطون هي الاكثر حرصاً على بقاء النظام في الخرطوم لسببين مباشرين أولهما استمرار تعاون الخرطوم في ملف الارهاب الاكثر ارقاً في عرف الامريكان ، بالإضافة لقدرة واشنطون على الضغط على الخرطوم عبر أذرعها في المؤسسات الدولية.. كمال الدين ابراهيم الامين العام لتصحيح مسار أزمة دارفور يرفض في حديثه ل(الرأي العام) اعتبار الموقف الامريكي متناقضاً، وارجع الحيرة لطريقة التفكير المحلية التي تختلف في محدداتها عن طريقة التفكير الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص ، وقال : (الموقف الامريكي غير متناقض، وبالتأكيد حال كان هناك مساعٍ لإقناع الاطراف المتصارعة بالعملية السلمية وأهمية الحوار ، فان واشنطون ستسعى لتجميعهم والحوار معهم في ورش أو منتديات وتبادل وجهات النظر وإقناعهم بأهمية وضرورة السلام). وأضاف : (أزمة الخرطوم تكمن في حساسيتها تجاه كل ما هو قادم من واشنطون ، لكن الاصل بأن الغرب لا يفكر مثلنا خصوصاً الامريكان يلعبون دور الوسطاء في المشهد ، أما الخط الرسمي فعبرت عنه الخارجية). البيان الرسمي للسفارة الامريكية يبدو داعماً لوجهة النظر الاخيرة القائلة بحرص واشنطون على لعب دور الوسيط وطبقاً للسفارة فان زيارة وفد الحركة الشعبية قطاع الشمال إلى «واشنطن في وقت سابق تهدف لمناقشة كيفية التوصل إلى حل للصراع وأزمة حقوق الإنسان في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، قبل أن يطالب البيان وبشكل مباشر الحركة الشعبية قطاع الشمال على إجراء مفاوضات مباشرة مع الخرطوم في أديس أبابا بالتزامن مع مفاوضات الخرطوموجوبا حول قضايا ما بعد الانفصال. من جانبه، اعتبر محمد سيف النقر الناشط السياسي والمحلل المقرب من دوائر المعارضة فى حديثه ل (الرأي العام)، أن أي حديث عن دعم واشنطن للجبهة الثورية أو غيرها يُعد حديثاً للاستهلاك الإعلامي ليس إلاّ ومحاولة لكسب تأييد الشارع. وكشف النقر، عن تبني الحكومة السودانية لذات الخط الذي ابتدره ياسر عرمان الأمين العام لقطاع الشمال بتمليك معلومات مغلوطة هدفها خلق التفاف من التنظيمات السياسية حول الفجر الجديد، وقال: (الدليل حديث عرمان لرئيس وفد قوى الاجماع بكمبالا صديق يوسف وتهديده بأنه اذا لم يتم التوقيع على الميثاق فان واشنطن والاتحاد الاوروبي لن يقدما أي دعم، وهو ما مثّل ضغطاً غير مباشر على الوفد). العلاقات السودانية الأمريكية، شبه الرسمية أي بعيداً عن الأجهزة الرسمية قريباً من مسؤوليها وأنشطتهم الخارجية، ظلّت ضبابية، ففي الوقت الذي راهنت المعارضة على دعم أمريكي مباشر للتغيير في السودان، كانت عبارات واشنطن تبخر عنان السماء معبأة بأطنان الغزل، أبرزها ما قاله أندرو ناتسيوس فى وقت سابق من العام الماضي بأن تغيير حكومة البشير لن ينهي الصراع في السودان. وقبل أن تواصل الإدارة الأمريكية تفجير بؤر الحيرة في سياق سلسلة تبدو ثقيلة بثقل مراكز القائلين بها في صفوف الإدارة الأمريكية حَاملَةً ذات المعنى، وقال المبعوث الأمريكي الخاص السابق للخرطوم وجوبا بريستون ليمان العام الماضي في حوار نشرته (الشرق الأوسط) إنّ انتقال الربيع العربي للسودان ليس من أجندتنا، وبصراحة لا نريد إسقاط النظام. مُثيراً حينها موجة من الاندهاش ألجمت المعارضة حيناً قبل أن تفيق، مُؤكِّدةً أنها الدبلوماسية الأمريكية الماكرة، قبل أن تنسخ الإدارة الأمريكية فرضية المعارضة، بإعادة تكرار ذات المعنى لأكثر من مرة على لسان القائم بالأعمال الأمريكي بالخرطوم جوزيف إستافورد. المؤتمر الوطني، ظل خاشياً من أن يكون التحول الإيجابي لواشنطن هو سيناريو للانتقال إلى مرحلة جديدة ضد السودان، وأمضى الفترة الماضية مؤرقاً بمحاولة سبر أغوار النوايا الأمريكية. فيما ذهب معارضون بمختلف مشاربهم حينها الى رفض اعتبار التصريحات الأمريكية تجاه إسقاط النظام سلباً أو إيجاباً شأناً يخصهم أو ينسحب على خطوط عملهم، ويذهبون للقول بأن العلاقة بين الإدارة الأمريكية والنظام في الخرطوم تخضع لإستراتيجية واشنطن في المنطقة، ويعتبرون أن العلاقة الايجابية بين الطرفين ليست وليدة اليوم مهما اختلف التعبير السياسي، بفضل جهود وخدمات مكافحة الإرهاب التي قدمتها الخرطوملواشنطن منذ منتصف التسعينات، وأشادت بها هيلاري كلينتون علانية. زين العابدين عبد الصادق المحلل السياسي والناشط في حقوق الإنسان قطع ل (الرأي العام) بأن نوايا الإدارة الأمريكية تجاه الخرطوم محاصرة بالوضعية الأمريكية نفسها في حقبة الأزمة العالمية الحالية وعجز الموازنة الأمريكية. وقال إنّ واشنطن تدرك تكاليف عمليات التغيير العنيف لنظام عقائدي أو أيديولوجي كالإسلاميين في السودان، لذلك هى تتبنى إستراتيجية الحفاظ على الأمر الواقع أو الراهن لحين الخروج من الأزمة. محمد سليمان جدو - المستشار السياسي لغرايشون إبان عمله في الخرطوم - نقل لي في وقت سابق أن الإدارة الأمريكية تتنازعها الرغبات تجاه الخرطوم، وتضم تيارين على طرفي النقيض إزاء الخرطوم أحدهم يدعم بشده اعتماد الخرطوم كحليف قوي في المنطقة، يستند على دعم النظام الحالي، ويتغاضي عن موبقاته السياسية والإنسانية لصالح توسيع قاعدة الامتيازات الأمريكية في المنطقة. وفريق يرى أهمية تمسك واشنطن بنظرتها تجاه كل نظام حكم يرفع شعارات إسلامية، ويجب المحافظة على مسافة كبيرة منه، تزايدت بعد أحداث 11 سبتمبر المعروفة، ويرى هذا التيار أهمية الإمساك بالعصا في مواجهة تلك الأنظمة ليس خوفاً من الإسلام بل تحسباً للمقدرة التعبوية للخطاب السياسي الذي يتم استغلاله للإضرار بالمصالح الأمريكية. بعيداً عن الحسابات الداخلية ومحاسبة النوايا سواء في واشنطن أو داخل الخرطوم، تظل التصريحات الأمريكية لممثلي الإدارة الأمريكية حلقة من حلقات الألغاز التي تعيشها الخرطوم دون اجتهاد في فك طلاسمها، لكنّ المؤكد لها تأثيراتها المباشرة على المكونات الأخرى خارج إطار النظام الحاكم في الخرطوم، خصوصاً الأحزاب المعارضة والحركات المسلحة، في أن النظام الحالي وبرغم المشاكل العديدة إلاّ أنّه الأجدر بالبقاء بحسب التصريحات الأمريكية، بحسابات من قبيل القدرة على تحقيق الاستقرار في الشمال بما يضمن انتقاله أو تحققه في الجنوب، فهل يعفي صوت واشنطن العالي أذن الحزب الحاكم في الخرطوم عن سماع شعارات إسقاط النظام؟! تبدو الإجابة ضبابية في ظل ملاحظة أن التصريحات الإيجابية تقف عند حدود الإدارة الأمريكية التنفيذية لكنها لا تتخطى البيت الأبيض إلى الكونغرس أو المُؤسّسات المدنية الأخرى. فالكونغرس بحكم تمثيله لكل أهواء المجتمع الأمريكي وميوله يبدو مُنصاعاً لمن له القدرة على التأثير عبر مجموعات الضغط والمصالح، ما جعل الخرطوم داخل قائمته السوداء مهما أجرى من إصلاحات. بينما ظلت المراكز ومؤسسات المجتمع المدني تمارس مبادئها بتقديم الدعم غير المباشر لكل ما من شأنه إقلاق مضاجع النظام، فهل يمتد ذلك الدعم إلى الجبهة الثورية في مارس المقبل؟!.. نقلا عن صحيفة الراي العام السودانية 21/1/2013م