إذا نظرنا إلى أجهزة الحكم القائمة في عالم اليوم فيمكن أن نصنف معظمها في إطار نظامين، أولا أنظمة الحكم الديموقراطية وهي التي تتحكم فيها الشعوب عن طريق انتخاب سلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتأخذ المحاسبة في الأداء شكلا جديا في العادة، ولا تكون هذه الأنظمة على شكل واحد، إذ هي تعتمد على الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية لكل بلد، فنجد نظما ديموقراطية مختلفة كما هو الشأن في الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا. ثانيا، هناك أنظمة حكم سلطوية وهذه - في العادة- ٍ تأتي بوسائل غير مشروعة - في أغلبها- مثل الانقلابات العسكرية والثورات وغيرها، ويعلن قادة هذه الأنظمة في معظم الأحيان مبادىء كلها في صالح الشعب، ولكن تنقضي سنوات طويلة ولا يتحقق شيء من ذلك، بل تنشر كثير من المعلومات عن الفساد وإساءة استخدام السلطة، ومع تقادم العهد بهذه الأنظمة تتحول إلى سلطات بوليسية ترفض الاستماع إلى الرأي الآخر، وهو ما يؤدي إلى الثورات والانتفاضات وغيرها، وذلك ما جرى في العالم العربي في الآونة الأخيرة حيث بدأنا نسمع بثورات الربيع العربي التي نجح بعضها ولم ينجح البعض الآخر على الرغم من سفك الدماء كما هو الشأن في سوريا اليوم. وإذا توقفنا عند نظام الحكم في السودان وجدنا أنه ينتمي إلى النوع الثاني الذي تحدثنا عنه، لكنه لا يتسم بالعنف الذي نعرفه في بلاد أخرى، ذلك أن نظام الانقاذ جاء في الأساس لكي يقيم نظاما إسلاميا في البلاد ولكنه بعد اثنين وعشرين عاما لم يستطع أن يؤسس هذا الحكم، وهو ما جعل الرئيس السوداني يدعو أخيرا أحزاب المعارضة إلى أن تجلس معه من أجل وضع دستور جديد للبلاد والتفكير في الانتقال إلى مرحلة أخرى من الحكم، ويأتي ذلك في نظر الكثيرين لأن الرئيس هو الأساس الذي يقوم عليه الحكم في السودان، ولدى شعور الرئيس بأن مرحلة حكمه قاربت على الانتهاء لأسباب يعرفها هو بدأ يفكر في مرحلة جديدة ربما لم يحسن النظام الاستعداد لها، وذلك ما جعل أحزاب المعارضين تتباين في مواقفها من دعوة البشير. ونلاحظ أن فاروق أبو عيسى رئيس تحالف الأحزاب المعارضة قد رحب بدعوة الرئيس البشير وأشاد بقراره اطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ودعا عددا من نواب البرلمان السوداني إلى التعامل بجدية مع دعوة الرئيس لأن هذه الدعوة ستحقق الوفاق الوطني المنشود، كما ستوحد الكلمة من أجل وضع دستور جديد للبلاد، وبالتالي الانتقال بالنظام إلى عهد آخر هو الذي تدعو إليه المعارضة وربما لم يكن ذلك رأي الكثيرين في المعارضة أو في الحكم، فقد رأينا مالك عقار رئيس الحركة الشعبية ' شمال' يقول إنه ليس متأكدا إلى أي المعتقلين يشير الرئيس خاصة بعد أن شكك البعض في أن يكون المعتقلون المقصودون هم من أعضاء المعارضة الحقيقية وليسوا من أعضاء الحكم ذاته. وهو الرأي نفسه الذي أعلن عنه 'ياسر عرمان' الأمين العام للحركة الشعبية قطاع الشمال الذي قال يجب ألا تبتلع المعارضة الطعم الذي أطلقه الرئيس البشير، وإذا كان هناك تغيير فيجب أن يكون بترتيبات جديدة وإلا فإن الخيار الثاني هو إسقاط النظام وهذا اتجاهان لا ثالث لهما من وجهة نظره. ومثل هذه الآراء متوقعة من المعارضة التي لا تريد أن تغير مواقفها القديمة مع تغير المراحل، ولكننا نلاحظ أن النظام لسبب ما بدأ يغير توجهاته من خلال محادثات سرية مع رموز المعارضة، فقد كلف الرئيس البشير مساعده عبد الرحمن الصادق المهدي لكي يجري حوارا مع والده وقد فعل، ورفع تقريرا بذلك إلى الرئيس البشير الذي عقد محادثات مع زعيم الحزب الاتحادي الديموقراطي السيد محمد عثمان الميرغني الذي أكد بدوره ضرورة استمرار الشراكة السياسية بين حزبه وحزب المؤتمر الحاكم دون أن نعرف أي شراكة سياسية يشير إليها السيد الميرغني. وفي تحرك آخر اتصل نائب الرئيس 'الحاج آدم يوسف' بالأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي الشيخ حسن الترابي وقال نائب الرئيس إنه بحث مع الشيخ الترابي ترتيب لقاء بينه وبين الرئيس البشير، وكان نائب الرئيس علي عثمان محمد طه قد التقى في برلين بالقيادي في المؤتمر الشعبي وبحث معه أيضا كيفية إحداث الوفاق في السودان. ومن جانبه قال الدكتور غازي صلاح الدين رئيس كتلة نواب الحزب الوطني الحاكم في البرلمان السوداني، تجب إعادة النظر في القوانين التي تتيح اعتقال المواطنين فترات طويلة دون محاكمة. وقد انتقده الكثيرون بأنه انتظر ربع قرن لكي يقول مثل هذا الرأي الصائب. وإذا نظرنا في كل هذه الآراء والمواقف تساءلنا ما الذي يحركها في هذه المرحلة ؟ هل هي فقط من أجل تهدئة الأصوات التي تنتقد النظام أم أنها دعوة حقيقية من نظام بدأ يقتنع بضرورة أن يكون هناك تغيير في هذه المرحلة من نظام الحكم. الإجابة على هذا التساؤل نجدها في المقابلة التي أجريت مع القيادي في نظام الحكم قطبي المهدي الذي شبه تصريحات الرئيس البشير بعدم رغبته في الاستمرار في الحكم بأنه تسونامي سياسي، ومع اعترافه بأن البشير لن يدوم حتى قيام الساعة كما قال، فهو يعتقد أن القائمين على الحكم في السودان ظلوا 'مكوشين' على السلطة دون أن يفكروا في إعداد جيل جديد للمواصلة بعد انتهاء مرحلتهم، وهذا هو أساس المشكلة في السودان. وقال المهدي إذا ذهب البشير الذي يحتفظ بولاء الجيش له فلماذا يبقى الآخرون وهم ليس لهم سلطة البشير أو قدراته القيادية .ويرى قطبي إن على البشير أن يواصل عمله حتى يعد الجيل الذي سيتولى السلطة بعده، وفهم من ذلك أنه يقول يجب ألا تذهب السلطة مباشرة إلى نائب الرئيس علي عثمان محمد طه ولكنه قال هذا فهم سطحي لوجهة نظره التي تعني فقط تأهيل قيادات جديدة للاستمرار في الحكم، وهو ما يعني - أيضا - أن نظام الإنقاذ لا يبحث عن مخرج جديد للواقع السياسي في السودان بل هو يسعى لإعداد جيل جديد من أجل مواصلة مسيرة الانقاذ، ويفهم من كل ذلك أن الوضع في السودان ما هو إلا حالة قلق من القيادات التي ظلت في صفوف الانقاذ أكثر من عقدين من الزمان، وتجد نفسها فجأة أمام واقع جديد تفرضه ظروف خارجية وداخلية، ولكنها لا تعرف كيفية التعامل معه، ذلك أن التغيير المطلوب في السودان لا يعني تسليم السلطة لقيادات متهالكة تحت شعار الوفاق الوطني، بل يعني فقط البحث عن نظام سياسي يتجاوز أخطاء الماضي من أجل استعادة الوحدة في البلاد وتحقيق الأهداف التي يسعى إليها الشعب السوداني. المصدر: القدس العربي 4/4/2013م