رغم الضجيج الإعلامي الواسع النطاق الذى أحدثته ما يسمى بالجبهة الثورية بعدوانها الغاشم على مناطق أم كرشولة وأم روابة وتظاهرها الزائف بأنها تمتلك ذراعاً طويلة إلا أن واقعها الحقيقي و (خزانة أسرارها) ملآى بخلافات وتعقيدات لا أول لها ولا آخر. الجبهة الثورية فى حقيقتها مجموعة قادة متشاكسين، مختلفي الرؤى والأمزجة والاتجاهات عملت على على جمعهم قوى إقليمية ودولية لأهداف تخصها والعملية العسكرية الأخيرة كانت جزء من هذه الأهداف ولهذا فحين نمعن النظر داخل مكوناتها فسوف نرى العجب العجاب. ففي الثالث من مارس الماضي انعقد اجتماع لقادة الثورية فى كمبالا ولم يكد المجتمعون يتوافدون الى مكان الاجتماع حتى تطايرت الاتهامات وتراشق القادة بشتى الألفاظ وقواميس السباب وكان محور النزاع رئيس الجبهة نفسه ورئيس قطاع الشمال فى ذات الوقت مالك عقار. تلقى عقار حينها اتهاماً بالتصرف فى الأموال (الواردة من الخارج) بطريقته الخاصة . عقار فشل تماماً فى تبرئة نفسه، وتفاقم الأمر حتى هددت حركة جبريل إبراهيم بالانسلاخ تماماً من الجبهة. منى أركو مناوي ووقتها لم يتلق الضربات الموجعة التى وجهها له الجيش السوداني فى مهاجرية ولدبو قال لرفاقه فى حركات دارفور انه لا يرى نفعاً لدى هؤلاء، ويقصد عرمان وعقار والحلو. مناوي طالب رفاقه فى الحركات المسلحة الدارفورية (بالبحث عن بدائل) . وقبل أن يكمل مناوي حديثه هاجمه قطاع الشمال معايراً له باتفاقه (المريب) على حد وصفهم بحزب الأمة القومي! قطاع الشمال رأى أن اتفاق مناوي مع حزب الأمة بمثابة (نكوص) عن (القواعد غير المكتوبة) لما يسمى بالجبهة الثورية باعتبارها (أي الجبهة) تستهدف فيمن تستهدف الخلاص من الأحزاب التقليدية والطائفية. عبد الواحد محمد نور الذى لم يجد ما يدافع به عن رفيقه مناوي - وما بين الاثنين من خلاف معروف - وجّه الخلاف الى وجهة أخرى تماماً حيث شكا مرّ الشكوى من إنفراد قادة قطاع الشمال بالقيادة منذ تأسيس الجبهة حتى الآن . الحركات الدارفورية المسلحة استشعرت أنها ظلت منذ تكوين الجبهة وحتى الآن على هامش القيادة ولم تتسنّم قمتها رغم أن جنودها يتم استخدامهم فى عملياتها العسكرية . عبد الواحد محمد نور بدا شدد الاستياء جراء هذا الواقع فقد جرى تذويبهم تماماً فى (أحشاء) الثورية ولم يعد لهم من وجود. تقاذًف القادة بالاتهامات، وتداخل الموضوعات أفضى الى تأجيل الاجتماع وهو تأجيل على ما بدا لاحقاً كان ضرورياً فقد كان قطاع الشمال يخطط لعملياته العسكرية دون إشراك القادة الغاضبين من حركات دارفور المسلحة وقد اشتاط عقار غضباً حين أصرّ القادة الدارفوريين على تولي جبريل إبراهيم رئاسة الجبهة. عقار بدا من فورة غضبه وكأنّ الأمر مساس شخصي به. غير أنّ عبد الواحد نور سرعان ما أن عاود الحديث عما أسماها (ضبابية الرؤية) لدى قيادة القطاع بشأن مفاوضات أديس ولم يكن موعدها قد حان بعد. فقد طفق عرمان يتحدث بلغة فضفاضة اختارها عن عمد فيما يبدو (لكي لا يعلم القادة الدارفوريين من بعد علمٍ شيئاً) . كان هذا المشهد السريالي المدهش هو آخر المشاهد الرسمية لما يسمى بالجبهة الثورية قبل حوالي الشهر من الآن كل شي مختلف حوله. القيادة متنازع عليها, المال مشكوك فى مصدر اكتسابه وأوجه صرفه. الحسابات المصرفية مخفية بعناية، بل بلغ الأمر -كما أشارت وقائع الاجتماع- إن بعض القادة (غير مدركين) لما سوف تقدم عليه الجبهة ما ستفعله قيادتها حيال المفاوضات كما ظهر من استفهامات وتساؤلات عبد الواحد محمد نور . ولهذا يمكن القول إن ما يسمى بالثورية فى الواقع ليست سوى جسم مسلح يسيطر على قيادته عقار والحلو وعرمان، وهؤلاء أنفسهم ليسوا سوى (وكلاء محللين) لجهات خارجية وإقليمية وهذا ما سوف يجعل من الأيام القليلة جدا المقبلة مسرحاً لتداعيات جديدة وخطيرة داخل الجبهة فهي عملياً قد انفصم عرى وحدتها، وأيقن قادة الحركات الدارفورية المسلحة أن (الطريق ليس واحداً)، وأن عقار وعرمان يستفيدون من جنودهم فى تحقيق أهداف أبعد ما تكون عن مصالحهم وهو ما يشبه ما حدث لأبناء النوبة فى الحركة الشعبية الجنوبية أيام قرنق. وعلى ذلك فإن العملية العسكرية التى جرت لا تعدو أن تكون محاولة لإحياء قطاع الشمال و رد الروح من خلال الجبهة الثورية فيما يضرب الخلاف جسدها المتهاوي النحيل وتنزف بغزارة، فقد كانت الكلفة باهظة والطريق شاق وطويل، والفاتورة واجبة السداد!