عشت طفولتي في مدينة الخرطوم بحري في السودان، وهذه المدينة هي واحدة من المدن الثلاث التي كانت تشكل العاصمة السودانية في ذلك الوقت ويطلق عليها العاصمة المثلثة التي تتكون من الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، وكان السودان في تلك المرحلة يخضع للحكم المصري البريطاني. وللحقيقة والتاريخ فإن سكان السودان لم يكونوا يشعرون بأنهم يخضعون لسلطة أجنبية، لأن الإنكليز كانوا يركزون على المشروعات، مثل مشروع الجزيرة، وكذلك على الإدارة والتعليم وغيرها، وأما المصريون فكانوا يهتمون بالري والتعليم والشؤون الاقتصادية مثل الترويج للمنسوجات الجميلة، وكان بنك مصر من أشهر البنوك في السودان. وفي الحقيقة كانت الثقافة المصرية في ذلك الوقت من أكثر ما يشد السودانيين، إذ كان السودانيون يتابعون الأفلام المصرية ويعجبون بشخصيات ‘اسماعيل يس′ و'محمود شكوكو' و'حسن فائق' و'حسين رياض' وغيرهم من كبار الممثلين، كما كانوا يقرأون بانتظام كل ما يصدر من أدب وفكر وكان الناس ينقسمون بين طه حسين وعباس محمود العقاد، وكانت شعبية العقاد الذي زار السودان وكتب قصيدته الشهيرة في ذلك الوقت كبيرة جدا، فقد قال العقاد: تفسير حلمي بالجزيرة وقفتي بالمقرن يا جيرة النيل المبارك كل نيل مسكني وكان حلم كثير من الناس في ذلك الوقت أن يذهبوا إلى مصر لتلقي العلاج أو لقضاء إجازاتهم الصيفية، وأذكر أنني ذهبت إلى مصر أول مرة مع والدي وكنت ما زلت طفلا، وكانت الرحلة تبدأ من الخرطوم بالقطار الحديث الذي أوجده البريطانيون، ويسير القطار مسافة تسعمئة كيلومتر حتى يصل مدينة حلفا في شمال السودان، وفي مدينة حلفا تبدأ رحلة أخرى ببواخر جميلة على نهر النيل حتى مدينة أسوان، وعند وصولي إلى مدينة أسوان أول مرة استرعى انتباهي عدد كثر من الصفائح المرصوصة في الميناء، وسألت والدي عنها فقال لي هذه صفائح ‘الفسيخ' وهو السمك المملح الذي يؤكل في مصر، وعجبت من ذلك لأن أكل الفسيخ محدود في السودان مع أن انتاجه يتم بغزارة من أجل تصديره بغزارة إلى مصر. ومنذ ركوبنا القطار الذي كان متوجها إلى القاهرة بدأت الطرائف، إذ جاء صاحب ‘القازوزة' – وهي المشروب الغازي – وكان يفتح الزجاجات دون أن يطلب منه أحد ذلك، وقلت لوالدي هل تعطي القازوزة في مصر بالمجان، فجاء الرجل بعد ذلك وهو يطالب بالثمن. وأذكر حين وصلنا إلى القاهرة نزلنا في فندق ‘ريش ‘ في شارع عبد العزيز، ومكثنا شهرا كاملا كنا ندفع عشرة قروش إيجارا للغرفة في اليوم، وفي آخر الشهر أعطانا صاحب الفندق خصما عشرة في المئة فدفعنا مئتين وسبعين قرشا فقط. أما ثمن الطعام في ذلك الوقت، فكان يدعو إلى العجب، ذلك أن المطاعم كانت تبيع وجبة الطبيخ بغير لحم بفرشين أما الطبيخ باللحم بأربعة قروش. وكانت رحلتنا إلى مصر مثار اهتمام الكثيرين لدى عودتنا إلى السودان إذ ظل الجميع يسألوننا عن أم الدنيا وما رأيناه فيها من عجائب. وهناك في السودان كان الاهتمام دائما بوحدة وادي النيل إذ كان السودانيون في ذلك الوقت معجبين بالملك فاروق الذي كان يلقب بملك مصر والسودان، كما كانوا معجبين بالنظام السائد في مصر في ذلك الوقت، وعندما وقعت ثورة عام 1952 حزن كثير من السودانيين لذلك ولكن عزاءهم كان أن قائد الثورة هو اللواء محمد نجيب ذو الأصول السودانية. ولكن هذا الأمر لم يدم طويلا إذ أبعد الرئيس نجيب من قيادة الثورة، ولم يكتف الرئيس جمال عبد الناصر بذلك بل أدار ظهره إلى السودان وتوجه نحو طموحاته الشخصية ببناء زعامته في العالم العربي، وكان هذا التوجه سببا في تأييد السودانيين لقرار استقلال السودان وعدم توجهه للوحدة مع مصر، وعلى الرغم من أن هذه كانت توجهات حزب الأمة ولم تكن توجهات الرئيس الاتحادي اسماعيل الأزهري، فقد أيد الاتحاديون استقلال السودان، واستمر هذا الأمر حتى عام ألف وتسعمئة وثمانية وخمسين عندما قام الرئيس ابراهيم عبود بانقلابه العسكري، وكان أول شعاراته إزالة الجفوة المفتعلة بين مصر والسودان، ولكنه لم يفعل كثيرا في ذلك بل كل ما فعله هو الموافقة على إقامة السد العالي الذي أغرق أراضي النوبة الذين كانوا على مر التاريخ همزة الوصل بين مصر والسودان. ولم يغير هذا الوضع طبيعة العلاقة بين مصر والسودان، وفي عام ألف وتسعمئة وأربعة وستين تحركت في السودان ثورة شعبية قادها طلاب جامعة الخرطوم اسقطوا خلالها نظام عبود لتعود الأحزاب من جديد حتى عام 1969 عندما قام الرئيس جعفر نميري بانقلابه وهو الانقلاب الذي وصفه الرئيس جمال عبد الناصر مع انقلاب القذافي بأنه جدد شبابه. واختلف الناس كثيرا حول هذا الانقلاب خاصة بسبب إعدام الزعيم الإسلامي محمود محمد طه، والقيادات الشيوعية بقيادة عبد الخالق محجوب، ولكن على الرغم من ذلك فإن هناك حادثة شخصية أذكرها، إذ ربطتني بالرئيس جعفر نميري علاقة خاصة، وفي كل مرة كان يأتي فيها إلى بريطانيا كان يستدعيني من مانشستر ليسألني في بعض الأمور، وكانت تعجبه آرائي، وقال لي إنه كان في ذلك الوقت من المواظبين على قراءة مقالاتي، واذكر أنه أخبرني لدى إحدى زياراته إلى العاصمة البريطانية لندن بعد إزالته من الحكم أنه يعاني من مرض في القلب وقد طلب منه بعض الأطباء في الولاياتالمتحدة أن يزورهم بانتظام، ولكنه قال مضى عامان ولم يتمكن من زيارتهم، فقلت له ولم ؟ فقال لأنه لا يملك نفقات السفر، وقد ارتفع في ذلك الوقت في نظري كثيرا، إذ كيف يحكم رئيس بلدا عربيا مدة تزيد عن خمسة عشر عاما، ولا يماك تكاليف علاجه في بلد أجنبي؟ وكما هو معلوم أطيح الرئيس نميري في ثورة شعبية لم تحقق أهدافها ليأتي بعده حكم تقليدي أزيح بعد فترة قليلة بواسطة حكم الانقاذ الذي يحكم السودان حتى الوقت الحاضر بشعارات إسلامية، ولم يحاول هذا النظام تحسين علاقاته مع مصر إلا بعد قيام نظام يواجه الآن تحديات كبيرة، وهي تحديات قد تواجه السودان بمشكلات جديدة، خاصة مع ظهور التأثيرات الإسرائيلية في دول حوض النيل سواء كان ذلك في منطقة البحيرات الاستوائية أو في دولة إثيوبيا. ولاشك أن التحدي الكبير الذي يواجه العلاقات المصرية السودانية في الوقت الحاضر هو عدم وضوح الرؤية في مصر الآن، وهذا أمر لم تتسم به السياسة المصرية في مختلف مراحلها، بل لم نعرف به الشخصية المصرية التي كانت منصرفة دائما إلى الفن والعلم والإبداع، وهي تواجه الآن مشكلات السياسة، فلماذا حدث هذا التغير وما الذي تجني أرض الكنانة من ذلك؟ والسؤال المهم الآن هو هل تحدث الأحداث الجارية في مصر الآن تغيرات في طبيعة العلاقة بين البلدين، سؤال تجيب عليه ما تسفر عنه الأحداث الجارية. المصدر: القدس العربي 18/7/2013م