أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأسبوع الماضي أن الخطاب المناهض لأمريكا في تصاعد منذ عودة بوتين إلى سدة الرئاسة في روسيا، وأن العلاقة بين البلدين تمر بظروف صعبة شبيهة بمرحلة الحرب الباردة . وكان البيت الأبيض قد أعلن أن الرئيس أوباما ألغى زيارته التي كانت مقررة إلى موسكو هذا الأسبوع . وجاء هذا الموقف الأمريكي على خلفية منح روسيا المستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي إدوارد سنودين حق اللجوء السياسي على أراضيها وذلك بعد أن ألغت السلطات الأمريكية جواز سفره . ويمثل منح روسيا حق اللجوء السياسي لسنودين تحدياً كبيراً للولايات المتحدة التي ترى أن عميل الاستخبارات المنشق قد خان وطنه، ووجه لها أكبر إهانة عبر تاريخها الطويل؛ لأنه زرع بذور الشك والريبة بينها وبين أخلص الحلفاء لها في قارة أوروبا، عبر كشفه عن عمليات التجسس التي تقوم بها على دول وشعوب القارة، وعلى دول وشعوب العالم أجمع . لقد كان سنودين حريصاً في اختيار الدولة القادرة على حمايته خوفاً من تسليمه إلى دولته، وكان قد شاهد ما حدث لمؤسس موقع "ويكيليكس" الأسترالي جوليان أسانغ الذي نشر برقيات ووثائق سرية رسمية أمريكية عام ،2010 ما أشعل غضب الولاياتالمتحدة عليه، فأوعزت إلى السويد؛ لتحريك دعوى ضده بزعم ارتكابه لاعتداء جنسي، وأصدرت المحكمة السويدية مذكرة اعتقال دولية بحقه، فأوقف في بريطانيا، وكان من المفترض أن يتم تسليمه إلى الولاياتالمتحدة؛ لكنه لجأ إلى سفارة الأكوادور في لندن في 19 يونيو/حزيران ،2012 ولا يزال موجوداً فيها إلى اليوم . لذلك ذهب سنودين إلى روسيا، ومنذ وصوله إلى المطار كان هناك ترحيب روسي رسمي به، وإن كان ترحيبا حذراً، وكيف لا وهو عبارة عن صندوق من الأسرار الكفيلة بتدمير رصيد عشرات السنوات من العمل الاستخباراتي الأمريكي . ومن جهة أخرى فثمة ملفات كثيرة بين روسياوالولاياتالمتحدة، وأهمها "قانون ماغنيتسكي" الذي صوت عليه الكونغرس الأمريكي في 6/12/،2012 وصادق عليه الرئيس أوباما في 15 من نفس الشهر، والذي يفرض عقوبات على عدد كبير من الشخصيات الروسية بدعوى ارتكاب مخالفات لحقوق الإنسان . وكانت روسيا قد دعت الرئيس الأمريكي إلى عدم المصادقة على ذلك القانون من منطلق أنه يشكل تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية، لكن الرئيس الأمريكي رفض الطلب الروسي انطلاقاً من زعم أن الولاياتالمتحدة هي راعية حقوق الإنسان، ومن واجبها التدخل في شؤون الدول الأخرى لدواعٍ إنسانية . وكانت روسيا قد عقدت عزمها على رد الطعنة الأمريكية التي أصابتها في الصميم . وفي البداية قام البرلمان الروسي بإصدار قانون يفرض عقوبات على الأمريكيين الذين لا يحترمون حقوق الإنسان، لكن لم يكن ذلك القانون فاعلاً، وإنما للاستهلاك الإعلامي فقط . أما في قضية سنودين فإن الأمر جدُّ مختلف، فهذا الشخص الذي أساء كثيراً لبلده، وجعلها تتوجع ألماً، فإن استضافته في روسيا هي بمثابة اقتصاص عادل من قانون ماغنيتسكي الذي آلم روسيا كثيراً، وهذه الاستضافة ستجعله في منأى عن اليد الأمريكية الطولى، فلن تستطيع الولاياتالمتحدة فرض عقوبات على روسيا، ولا على تحدي قوتها العسكرية الجبارة؛ ما جعل كافة الدوائر السياسية في العالم تعتقد بأنه لن تكون البتة ثمة مهادنة بين روسياوالولاياتالمتحدة، وستبقى العلاقة بينهما في دائرة المغامرة والتآمر والتربص والتوثب والانقضاض، وتجنح دائماً إلى حالة القلق العضوض . إن ما يجب أن تقرأه الولاياتالمتحدة في منح حق اللجوء السياسي لسنودين من قبل روسيا، هو أنها ليست القوة الوحيدة في العالم، وأنها ليست رسول السلام الإلهي إلى البشرية، كما أنها ليست وحدها القادرة على إدارة شؤون العالم، أو التدخل في شؤون الدول الأخرى . لأن أسطورة تفوق القطب الواحد قد بدأت تذبل، وأصبح هناك عالم متعدد الأقطاب، حيث لا يمكن لدولة واحدة مهما كانت قوتها أن تكون قادرة على تشكيل مصير العالم وحدها، وذلك بتكييف وصياغة قوى الكون على الشكل الذي يتفق وأهدافها وغايتها من جهة أخرى، وهذا يعني ارتدادها إلى الشحوب والضعف في النظرة المادية السياسية والتي تنسف بالممارسة كافة المبادئ التي نادت بها الأمم والمذاهب المادية في إطار احترام سيادة الدول ووحدة الضمير للأمة . إن احترام الشؤون الداخلية للدول هو من أوجب المسائل التي ينبغي التركيز عليها في المجتمع الدولي، فهذه مسألة بالغة الحساسية لكل شعب ولكل دولة- لأنها تتعلق بالكرامة- وهذا التدخل من شأنه أن يُؤجج الفتن والأحقاد التي يعاني منها عالمنا المعاصر . المصدر: الخليج الاماراتية /9/2013م