كم مرة تعهّد رئيسا شطري السودان، شماله وجنوبه، فتح صفحة جديدة في علاقاتهما بعد التوصل إلى اتفاقات بشأن التعاون الثنائي والسياسي، بدءاً مما سمّي "اتفاق السلام" عام 2005 الذي أنهى الحرب الأهلية وأدى إلى انفصال جنوب السودان؟ جرى ذلك مرات أكثر من أن تعد أو تحصى . في كل مرّة يسمع السودانيون كلاماً جميلاً عن "مستقبل أفضل"، ووعوداً عن مسار جديد ومصالحة وتنمية . ذلك هو التدليس واللغو السياسي والضحك على الذقون، ولا تشبهه سوى مصالحات المزج بين ثقافة "فنجان القهوة" وتبادل الابتسامات أمام عدسات المصوّرين . باختصار وبكل بساطة، ما سمي باتفاق السلام الشامل استكمل ما لم يتحقق من مخطط "سايكس بيكو"، وحمل للأمة المقسّمة انفصالاً جديداً بعد تعبيد الأرض لها بحرب طاحنة بين السودانيين، وتهميش أتقنته الحكومات المتعاقبة في الخرطوم، فتلك وصفة سحرية للتدويل المفضي إلى انفصال الجنوب عن الوطن الأم، ضمن مرحلة أقل ما يمكن أن توصف به بأنه "ربيع الانقسامات والشرذمة" . كل الاتفاقات لم تحقّق السلام والتنمية لا للشمال ولا للجنوب، ذلك أن ما يحقّق السلام والاستقرار والتطوّر والتنمية للشعوب، حتى لو بمعنى انتقالها من تحت الصفر إلى الصفر نفسه، هي وحدتها سياسياً واقتصادياً وثقافياً ووجدانياً تحت سقف العيش المشترك، وليس بتقسيم الأقسام وتجزئة المجزأ، وتشظي الجزيئات عرقياً وطائفياً ومذهبياً وجهوياً وقبلياً . لم يفهم الأغبياء من العرب، السياسيين والإعلاميين والمثقّفين وأشباههم، أنهم يستجيبون بوعي أو من دون وعي، وبوعي على الأغلب، أن الأمم، لا سيما في زمن العولمة، باتت تبحث عن مصدر قوّتها في استثمار الوحدة والاندماجات . فأوروبا رغم قوة كل دولة فيها اقتصادياً وسياسياً، تسير في طريق الوحدة، وحدة السوق والعملة والوجدان، فيما يجري تقسيم الأمة العربية ذات المنشأ الواحد والتاريخ واللغة والتكوين النفسي المشترك، ويجري هذا بانتشاء غريب، وببهجة من يخرج منتصراً من معركة . أمة تنقسم بين مدافع عن ذابح ومؤيد لمذبوح تبعاً للهوية الطائفية، وليس مراعاة للحق في الحياة ولوازع إنساني . لا قيمة للوعود ما لم تكن مدفوعة بالإرادة السياسية وتغليب الذات الإنسانية على المناصب الوثيرة . بهذا فقط يمكن التغلّب على الشكوك التي يحملها كل طرف للآخر . هكذا تجري عمليات الكذب السياسي والاتفاقات المسلوقة على نار الدجل ورفع العتب . الفقراء يغادرون منازلهم وقراهم ولا يغادرون فقرهم، ليبقى الزعماء في مناصبهم ممتطين قاطرة الحرب والسلام، ممسكين حبل الأزمات وحلّها بأيديهم . يحاربون الوطن ويقسّمونه باسم الدفاع عنه، يفقّرون الشعب ويشرّدونه ويتحدّثون باسمه . من الأجدى والأهم أن يغض العربي النظر عما يقوله زعماء الانقسام وجوقتهم ومأجوريهم من المثقفين الكذّابين والمنافقين باسم الوطن والشعب والأمة والدين، ويلقي بالاً واهتماماً لما يقوله مواطن سوداني بسيط لم يعرف طريقاً لفبركات ما خلف الكاميرا، ليقول بعفوية ذات نكهة سودانية أصيلة "لن يكون هناك شمال بلا جنوب ولن يكون هناك جنوب بلا شمال، لأن قدرنا ومصيرنا أن نعيش معاً" . وللسودانيين وللعالم كله عبرة في مسرحية "غزة والضفة"، فنحن أمة "مبدعة" في تعميم النماذج الفاشلة والبائسة، ولديها من المثقفين من يستحقون كل جوائز الأرض نظير "إبداعهم" في الخيبة والمزج بين الثروة والثورة . المصدر: الخليج 28/10/2013م