ربطت بيني وبين كثير من الإخوة من دارفور علاقة صداقة خلال وجودهم في العاصمة البريطانية لندن – وكانت تلك فترة لجوء الكثيرين منهم إلى بريطانيا – وحاولت من خلال تلك العلاقة أن أتفهم جوهر المشكلة في دارفور، غير أنني لم أتمكن من ذلك بصورة كاملة لأن حديث الأصدقاء كان يتركز دائما على تناول بعض عناصر المشكلة بعد تغليفها بالأسباب التي دعتهم إلى اللجوء، لكن فكرتين ظلتا تشدان انتباهي، الأولى قول الأصدقاء إن مشكلتهم هي من أجل المشاركة في السلطة، والثانية، قولهم إنهم يريدون لإقليمهم أن يشارك في ثروة البلاد ، وأثار ذلك بعض التساؤلات عندي، هل يحتاج هذان المطلبان إلى نزاع مسلح لتحقيقهما ؟ فالمعروف لدي في تلك المرحلة هو أنه لم يكن هناك استبعاد لأهل دارفور من المشاركة في السلطة إذ كان كل فرد يستطيع الوصول إليها دون اعتراض، وأما بالنسبة للثروة فالحقيقة الأولى هي أن السودان بلد ظل يصنف حتى تلك المرحلة بأنه من البلدان الفقيرة، وبالتالي فإن ما يفيض من احتياج الأقاليم ليس كبيرا بحيث يصدر إلى أقاليم أخرى، ومع ذلك، فلا يمانع أي إقليم بمشاركة أي إقليم آخر في ما يفيض من ثروته ، غير أن تفاقم مشكلة دارفور من ناحية أخرى جعلني أرى أن الأمر يحتاج إلى شيء من العمق والبحث في تفاصيل الأحداث التي أدت إلى تفاقم تلك المشكلة ، ولا شك أن الدراسات في هذه القضية كثيرة جدا، لكني وقعت أخيرا على دراسة رفض صاحبها أن يعرف نفسه، على الرغم من أن دراسته تقدم تصورا واضحا لقضية دارفور، وذلك ما جعلني اتجه إلى استعراض بعض أجزائها في هذا المقال . . أكد صاحب هذه الدراسة في البداية على أن مساحة إقليم دارفور تعادل ثلث مساحة السودان بعد انفصال دولة الجنوب، وأما عدد سكانه فيبلغ نحو ربع سكان البلاد، ومعظم هؤلاء من المسلمين السنة الملتزمين بتعاليم الدين الإسلامي، وشكل سكان الإقليم القاعدة الأساسية التي ساعدت الإمام المهدي في ثورته على الحكم التركي في القرن التاسع عشر، ومن جانب آخر .فليس صحيحا أن الحركات العسكرية المعاصرة في دارفور كان سببها معارضة حكم الإنقاذ القائم لأن هذه الحركات بدأت في سبعينيات القرن الماضي وذلك قبل قيام حكم الإنقاذ الحالي، لكن الأمر ازداد تفاقما في عام ألفين وثلاثة وهو الوقت الذي أصبحت فيه قضية دارفور ذات بعد عالمي وأثارت كثيرا من التساؤلات يأتي في أولها، هل يريد إقليم دارفور الانفصال من الكيان السوداني الكبير أم هو مقيد بمطالب محددة؟ ويزداد هذا السؤال أهمية بعد انفصال جنوب السودان وظهور بعض القيادات التي تعتقد أن إقليم دارفور يمتلك من الإمكانات ما تؤهله لأن يكون دولة مستقلة، ومنها على سبيل المثال امتلاكه لثروات نفطية ومخزون من اليورانيوم، ومن جانب آخر ذهبت الدراسة إلى أن ترويج الغربيين إلى أن مساحة إقليم دارفور تبلغ مساحة فرنسا أعطى إحساسا في داخل السودان بأن الغربيين يشجعون سكان الإقليم على الانفصال وإقامة دولتهم المستقلة. وترى هذه الدراسة أن طبيعة القبائل التي تسكن إقليم دارفور تثير غير قليل من القلق، إذ على الرغم من أن معظم هذه القبائل من المسلمين فإن هناك اختلافات بينها بسبب اختلاف الأعراق والمصالح الاقتصادية، ذلك أن نسبة كبيرة من سكان الإقليم ينتمون إلى الأصول الأفريقية بينما تنتمي نسبة أخرى إلى الأصول العربية وهي تمارس حياة الرعي والتنقل بحسب المواسم. كذلك تركز الدراسة على أن إقليم دارفور لم يكن في الأساس جزءا من الكيان السوداني وجاء ضمه بواسطة الإنكليز في عام 1917وذلك ما قد يشجع الحركات الانفصالية للسير في طريقها، إذا لم تكن هناك حلول عملية للمشاكل التي يعاني منها الإقليم في علاقته مع الدولة الموحدة . وتركز هذه الدراسة على أن هناك تدخلات غربية وصهيونية في إقليم دارفور خاصة من جهة فرنسا وإسرائيل، إذ تريد فرنسا ضم الإقليم إلى الحزام الفرانكفوني، كما تستهدف إسرائيل إضعاف دولة السودان . وظهر ذلك من خلال استضافتها لبعض الزعماء من الإقليم. ولا تعفى الدراسة حكومات السودان المتعاقبة من إهمال إقليم دارفور، خاصة مع التركيز على مشكلة الجنوب وقصور برامج التنمية في الإقليم. وتذهب الدراسة إلى أن ضعف الجيش السوداني شجع عصابات ‘الجنجويد' على النهب والسلب في المنطقة، وكانت حكومة السودان قد اتهمت بأنها هي التي تدعم هذه العصابات، غير أن الحكومة السودانية ظلت تنفي ذلك ويعتبر الكثيرون ذلك في الحالين من مظاهر الضعف، لأنه إذا كانت الحكومة هي التي تدعم عصابات الجنجويد حسب ما تسمى فمعنى ذلك أنها ليست قادرة على بسط الأمن بنفسها، وإذا كانت لا تدعمهم فإن ذلك دليل آخر على ضعفها بكونها غير قادرة على السيطرة على تلك الجماعات. وترى الدراسة أن حل مشكلة دارفور يكمن في تقديم مساعدات من العالمين العربي والإسلامي وأيضا تقديم البرامج التي تحدث حالة من القبول عند سكان الإقليم وتبعد عنهم الإحساس بالتهميش. ولا يتم ذلك إلا بفهم قضية السودان بصفة عامة، من أجل تقديم البرامج التي تطور إقليم دارفور وتجعله بعيدا عن القلاقل. ولا بد من أجل تحقيق هذا النوع من التقدم أن يحدث تحول في الرؤية سواء كان ذلك من جانب الجبهة الثورية أو من جانب الحكومة، لأن الأمر لا يحتاج إلى التقاتل بين الجانبين بل يحتاج إلى التفاهم، فمن جانب الجبهة الثورية يجب أن يكون هناك تفهم على أنها غير مكلفة بمواجهة الحكومة السودانية بالإنابة عن الشعب السوداني، كما أن المواجهة العسكرية لنظام الحكم لا تخدم غرضا، ذلك أنه حتى لو تمكنت الجبهة الثورية من تحقيق أهدافها فإن السؤال الذي سيظل قائما هو ما البديل؟ هل البديل هو سيطرة مجموعات مسلحة على نظام الحكم في السودان؟ وإذا تحقق ذلك فما التحول الذي يمكن أن تحققه مثل تلك السيطرة؟ ومن جانب الحكومة فلا معنى للدخول في مواجهات عسكرية مستمرة مع الحركات الخارجة على نظام الدولة والتي تطلق عليها الحكومة حركات حاملي السلاح، والأجدى من كل ذلك التوصل إلى تفاهم مع سائر الجهات المعارضة والمؤيدة انطلاقا من أن السودان بلد متعدد الأعراق والثقافات، ولا يتحقق ذلك إلا بالجلوس إلى مائدة واحدة تتحدث فيها جميع الاتجاهات بصراحة ووضوح ويتفق الجميع على أن المهم في جميع الأحوال هو إدراك أن الهدف ليس هو الوصول إلى الحكم أو النجاح في تمزيق السودان، بل الهدف هو الوصول إلى تفاهم يحقق لسائر الأقاليم تنميتها في إطار نظام وحدوي شامل، ذلك أن السودان كما قلت سابقا بلد تحكمه وحدة جغرافية وهي الوحدة التي شكلت الكيان السوداني القائم، ولا يقتصر ما قلته على الحركات المناهضة للحكومة وحدها بل يجب أن يكون هناك فهم من جانب الحكومة ذاتها بأن مشاكل السودان لا تحل بالسلاح وحده بل تحل بالتفاهم والوفاق، ذلك أن طبيعة السودان تفرض ذلك. والمهم في كل ما ذهبت إليه هو أن مشكلة دارفور ليست مشكلة عصية على الحل بل هي مشكلة تحتاج إلى وضوح في الرؤية، فإذا كانت القضية تتركز في المشاركة في الحكم وتقاسم الثروة فيجب أن يكون هذا الهدف واضحا وتقدم المقترحات من أجل كيفية تحقيقه، وإذا كان الهدف هو تحقيق نوع من الاستقلالية أو الانفصال فيجب أن تناقش السلبيات والإيجابيات في وقت واحد، ومن الخطأ أن تبنى التوجهات على أسس عرقية أو قبلية في وقت نرى فيه العالم الحديث يسعى من أجل التوحد تحت قيم الحضارة والتقدم بعيدا عن المناكفات العرقية والطائفية المصدر: القدس 5/12/2013م