عندما اندلعت أزمة دارفور قبل حوالي عشرة أعوام، كانت جهات كثيرة تتوقع دخول الإقليم مرحلة التقسيم وخروجه من الدولة السودانية. لكن تعثر انفصال الجنوب أجَّلَ عملية سلخ الغرب عن الجسد الأم، ورغم استمرار المعاناة على الأرض إلا أن الأزمة دخلت مرحلة من الهدوء النسبي خلال السنوات الماضية، بفعل جرعات مختلفة من الأوكسجين السياسي والإنساني كانت تُضخ من جهات متباينة، وفّرت لها قدر من الانضباط المسلح، ومنعتها من دخول مرحلة الموت الإكلينيكي. خرج الجنوب فعلا، وبقيت معاناته مع الشمال تستنزف الجانبين، لكن عندما تحولت المعاناة إلى عبء كبير على الجنوب، وبدا أن الخرطوم يمكن أن تفرض كلمتها، تم تغذية الأزمة في دارفور، وتوافرت لها عوامل متعددة للتصعيد، وعادت تدريجيا إلى صدارة المشهد الإعلامي والسياسي، وأصبحت أيضا منغّصا أساسيا للنظام السوداني، حتى ينشغل بها، ولا ينشغل بما يجري في الجنوب ويوظفه لصالحه، حيث دخل الخلاف بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار مرحلة غاية في الحساسية، ربما تؤدي إلى هدم المعبد على الرجلين. لذلك، يبدو التصعيد الجديد في دارفور ليس من قبيل الصدفة، فالسياق العام الذي تم فيه يشير إليه عدم استبعاد وجود أياد خارجية، تعبث لصالح عودة التوتر إلى سابق عهده، والذي بدأ يتّسع مع انفجار الموقف في الجنوب، وأخذ التغلغل ينتقل من الشمال إلى جنوب دارفور، عقب إرسال النظام السوداني إشارات تفيد باستعداده للدخول في حوارات جادة مع القوى السياسية. زادت حدّة العمليات المسلحة، مع إعلان فشل مفاوضات أديس أبابا بين الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال والحكومة السودانية، وقامت الحركة بتنشيط أذرعها المسلحة ضمن تحالف ما يسمى ب"الجبهة الثورية السودانية"، الذي يضم معها حركتي العدل والمساواة، وتحرير السودان- جناح منى أركو ميناوي، وهو التحالف الذي ينشط في إقليم دارفور وجنوب كردفان، بالتالي تصبح القوات الحكومية حائرة بين القتال في منطقتين متباعدتين، ومنشغلة بالدفاع عن نظام الخرطوم، بدلا من التطلع لتغيير المعادلة مع الجنوب. من جهة أخرى، تزامن التصعيد مع مرونة مفاجئة طرأت على العلاقات بين القاهرةوالخرطوم، أشارت إلى رغبة البلدين في طيّ الصفحة القاتمة الماضية، وفتح صفحة جديدة تنطلق من المصالح المشتركة، وجرت مياه كثيرة في هذا السياق، بينها ليونة السودان في ملف مياه النيل، وتسريع خطوات التعاون الاقتصادي، ورغبة عارمة في تلطيف الأجواء وسط زيارات رسمية متبادلة، حملت رسائل دلّت على عمق الغزل السياسي، أضف إلى ذلك اعتراف الحكومة المصرية، في العلن وخلف الكواليس، بخطأ تجاهل أزمات السودان خلال الفترة الماضية، وتركها في أيدي دول لم تكن حريصة على وحدته التقليدية، ما يعني أن مصر لن تأل جهدا لتسوية أزمة دارفور، حتى لا تواجه مصير جنوب السودان. لست من أنصار نظرية المؤامرة، لكن التطورات والتصرفات التي نراها في دارفور تقود إلى هذه النتيجة، فمصر تقترب من استرداد عافيتها، واستمرار الهدوء النسبي في الغرب لفترة من الوقت، سوف يسمح لها بالاقتراب من الأزمة، ومحاولة حلها في إطار الدولة السودانية، لاسيما أنها تملك علاقات جيّدة بعدد من الحركات الدارفورية، والخرطوم لن تمانع في مساعدتها على تقديم مقاربة سياسية، وقطر المعروف أنها كانت حتى وقت قريب "عرّاب دارفور" منخرطة في همومها السياسية، بالتالي سيكون الطريق ممهدا لتمشي عليه مصر نحو دارفور. هنا، تكاتفت مجموعة كبيرة من العوامل الخارجية، لتؤجج الوضع في غرب السودان، مستندة إلى البيئة المحلية القلقة أصلا، والتي ساهمت أخطاء النظام السوداني في زيادتها قلقا، عندما سمح بتدهور تحالفاته القبلية في الإقليم مؤخرا، وفشل في احتواء من وقع معهم اتفاقيات سياسية، وأهمل دعم السلطة الإقليمية، حتى أن رئيسها التيجاني السيسي ألقى باللوم على الخرطوم، بعد تفاقم الأوضاع في دارفور، وازداد الموقف سوءا، عقب تعرض قوات حفظ السلام الدولية (يوناميد) لهجمات متكررة أثارت استنفار المجتمع الدولي، فعقد مجلس الأمن جلسة يوم الأربعاء الماضي، انصب فيها غضب غالبية الأعضاء على الخرطوم، وكان غضب الولاياتالمتحدة شديدا، وبدأ العالم يتذكر أزمة دارفور، لتعود هذه المرة، كمسألة إنسانية وسياسية في آن واحد. الغضب الأممي الذي ظهرت ملامحه في مجلس الأمن، وقبله في تقارير منظمات حقوق الإنسان، دفع بعض القوى السودانية إلى ركوب الموجة، ومحاولة استغلال دارفور في مآرب محلية، وكله في النهاية يساعد على وضعها في واجهة الأحداث، فالدكتور حسن الترابي، زعيم حزب "المؤتمر الشعبي"، دخل البرلمان السوداني يوم 10 آذار الجاري، بعد غياب دام 15 عاما، تلبية لدعوة وجهت إليه لدعم مبادرة "أهل الله" التي أطلقتها قيادات الطرق الصوفية لوقف الصراعات القبلية خاصة في دارفور، والصادق المهدي، زعيم حزب "الأمة القومي"، دعا إلى تغيير المنهج المتبع لحل الأزمة، وطالب بتشكيل مجلس قومي للسلام في السودان. المهم أن هذه التحركات تصب في خانة وضع دارفور على الأجندة الدولية مرة أخرى، والتغطية على ما يدور في جنوب السودان، وإذا لم تتعامل الخرطوم بكياسة وحنكة مع الأزمة هذه المرة، ستجد نفسها أمام سيناريو آخر للتقسيم. المصدر: العرب اللندنية 17/3/2014م