بعد مرور أكثر من شهر على خطاب الرئيس السوداني البشير (الشهير المعروف شعبيًا بالوثبة) حول الوفاق الوطني، والحوار بين مكونات الساحة السياسية، بدأ الرئيس البشير الحوار رسميًا ولكن هذا الحوار لم يكتسب أهمية من الرسمية وإنما من أنه جمع لأول مرة منذ 14 عامًا البشير وأركان حزبه مع غريمه اللدود الدكتور حسن الترابي زعيم الإسلاميين السابق وزعيم المؤتمر الشعبي الذي أتى أيضًا بعدد من قادة حزبه، ولذلك تحوّلت الأنظار من الحوار الوطني إلى المُصالحة بين الإسلاميين، الأمر الذي أثار الشكوك حول دوافع هذا اللقاء وحول أهمية الحوار، هل المقصود به الحوار الوطني من أجل إيجاد مَخرج من أزمات السودان أم الحوار من أجل إيجاد مَخرج للحزب الحاكم وإسلامية السودان؟، وبالتالي كان من باب أولى أن تتم المصالحة أولًا بين الوطني والشعبي في كيان إسلامي موحّد يمنح دفعة قوية لهما في مواجهة تحديات المرحلة التي تعصف بالسودان . من الواضح أن الحزبين الوطني والشعبي قد بدآ فعلاً في إعادة ترتيب أوراقهما، وأن الترابي الذي عانى كثيرًا من تلاميذه خلال ال14عامًا، أكد في أكثر من مناسبة أن المؤتمر الوطني الحاكم بالسودان من فرط أخطائه القاتلة في العمل السياسي بات قابلاً للسقوط بفعل الجاذبية الأرضية حتى بدون أي معارضة. إلا أنه يبدو أنه قد تراجع عن هذه النظرة باعتبار أن سقوط الحزب الحاكم يمثل سقوطًا لكل (الإسلاميين) ،والذي يمثل هو عرّابهم بالسودان، ولذلك تناسى الضغائن وبدأ في المُصالحة لتوفير منصّة هبوط آمن للبشير وقادة حزبه، حال وافق المؤتمر الوطني على ترتيبات فترة انتقالية أو وريث شرعي قادر على الإمساك بعصا السلطة لمرحلة انتقالية جديدة تقود إلى انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة بالسودان. ولكن السؤال المطروح، ما الثمن الذي يرتضيه الترابي لهندسة هذا الواقع الجديد؟، وأين دور المعارضة السودانية، خاصة حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، الذي ظل طوال الفترة الماضية يلعب دور اللا معارض واللا مشارك وظل يمسك العصا من المتنصف ؟. من المهم أن يُدرك الحزبان، المؤتمر الوطني الحاكم والمؤتمر الشعبي المعارض، أن الحوار إذا كان المقصود منه توحيد الإسلاميين في مواجهة الآخرين وتمكينهم من الحكم، فلن يقود ذلك إلى حل أزمات السودان، والتي استعصت وتشعّبت وتأقلمت ومن ثم تدولت، حتى أصبحت مفاتيح الحل في أغلبها خارجيًا وليست داخليًا، والجميع يُدرك هذا الواقع وأن أي حوار وطني يجب أن يُراعي مطالبات الواقع السوداني الحالي المُعقد، والمتشابك بعضها مع بعض، فقضية دارفور لا تنفصل عن الحوار الوطني وكذلك قضية جنوب كردفان وجبال النوبة وأيضًا الحريات والمُعارضة الداخلية وحتى النقابات وأيضًا الأزمة الاقتصادية وتداعياتها المختلفة. فالحوار الثنائي لن ينجح في حل أزمات السودان بل يقود إلى مزيد من الأزمات خاصة في ظل شكوك أحزاب المعارضة بجديّة الحزب الحاكم، حيث تراجعت فرص نجاح الحوار الوطني المنشود بصورة كبيرة وظلّت الكثير من القوى السياسية تتشكك من جديّة الحزب الحاكم في الحوار، وباستثناء أحزاب القبلة من الإسلاميين بطوائفهم الثلاث (الشعبي والأمة والاتحادي)، ولكن بدخول الحزب الحاكم في حوار منفرد مع الشعبي زاد شكوك حتى الحزبين الآخرين خاصة حزب الأمة بقيادة المهدي، فيما رفضت القوى السياسية المنضوية تحت لواء قوى الإجماع الوطني أي دعوة للحوار مع الحزب الحاكم وقدّمت جملة من الشروط قبل الدخول في أي حوار خاصة أن خطاب الرئيس البشير الأخير في بورتسودان الذي رفض فيه تصفية الحزب الحاكم ورفض تأجيل الانتخابات وضع الأحزاب التي كانت تدافع عن الحوار مع الوطني "من غير شروط" في موقف غاية الصعوبة، ولذلك لم يجد الحزب الحاكم إلا البحث عن مخرج وتقديم تنازلات، وأن هذا المخرج هو الترابي. وكيف ينظر الترابي للحوار الوطني، وهل تخلى عن قوى الإجماع الوطني ؟ من المؤكد أن الترابي يُدرك جيدًا أن تلاميذه السابقين يعيشون في ورطة سياسية حقيقية أدخلوا فيها السودان، وأن هذه الورطة ستلقي بظلالها السالبة على جميع الإسلاميين من وطني وشعبي باعتبار أن الإنقاذ مسؤولية الجميع، ومن هنا لابد من إيجاد المَخرج لهم، ولكن ثمن هذا المَخرج هو محور البحث والذي يجب أن يبحث عنه الآخرون، خاصة أن البشير قد أعلنها صراحة أنه لن يترشّح للرئاسة في الانتخابات. ولكن فات على الطرفين أن أزمات السودان أكبر من مجرّد توقيع اتفاق أو مصالحة بين حزبين، فقد وقّع الحزب الحاكم مئات الاتفاقات والتفاهمات والمذكرات مع الجميع، وشارك الجميع حتى الترابي قبل المفاصلة الشهيرة، ولكن كانت النتيجة تواصل واستفحال الأزمات، ولذلك فإن قضية السودان واضحة ولن تُحل إلا عبر حوار وطني أو مؤتمر دستوري أو منبر إقليمي برعاية دولية مثلما تم في اليمن. فالسودان يختلف عن تونس التي استطاعت النقابات أن تحل الأزمة السياسية وبموافقة الجميع بمن فيهم حركة النهضة الحاكمة التي آثرت كسب الدولة على حساب الحزب، فليس هناك نقابات مستقلة بالسودان مثل تونس فجميع النقابات هي كيانات حزبية تأتمر باسم الحزب الحاكم وهي أفرع منها ويتولى قيادتها قادة حزبيون ، ولذلك فإن أسلوب الحوار الوطني الذي تم باليمن هو الأنجع لحل أزمات السودان خاصة أن مشاكل السودان لا تختلف عن مشاكل اليمن، ولذلك فلماذا لم يتم تطوير لجنة تامبيو امبيكي التي تتولى مهمة الوساطة بين الحكومة والحركة الشعبية ،قطاع الشمال، لتولي ملف الحوار الوطني والمصالحة بالسودان، خاصة بعدما وجّه مجلس الأمن والسلم الإفريقي اللجنة برعاية هذا الحوار ودعمه. فليس هناك مَخرج إلا رعاية دولية أو إقليمية لقضية الحوار الوطني بالسودان، فقد جربت الحكومة والمعارضة جميع الوسائل وفشل الطرفان بسبب عدم الثقة المتبادلة وبسبب عدم رغبة الحكومة في الدخول في أي حوار إلا عبر خارجي، ومن هنا فإن على الحزب الحاكم والترابي أن يُدركا أن المَخرج والطريق أصبح ضيقًا، وأنه في ظل هذا الاستقطاب فليس أمامهما إلا طريق أمبيكي قبل فوات الأوان، خاصة مع تكاثر التحديات والضغوط على الحزب الحاكم بالسودان، وفي ظل الوضع الاقتصادي المتردي وحالة العُزلة المفروضة على السودان وتمدّد الصراعات والحروب الأهلية في نصف مساحة الوطن تقريبًا. فالقضية ليست قضية المُحافظة عن حكم الإسلاميين بالسودان عبر توحيدهم وإنما المُحافظة على السودان كدولة. هذا لا يتم إلا عبر حوار وطني معمّق ومحروس برقابة وقرارات دولية مثلما حدث في اليمن. فتجربة حركة النهضة التي كانت حاكمة وتخلّت عن الحكم طوعًا بتونس جديرة بالاقتداء بها، ولكن من يقنع إسلاميي السودان بأنهم تسبّبوا في الفشل الذي لازم السودان طيلة ال24 عامًا بسبب إصرارهم على عزل الآخرين، وآن الأوان أن يترجّلوا طوعًا قبل أن يترجّلوا كرها . المصدر: الراية القطرية 18/3/2014م