تدعو النتائج التي حققها اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية إلى التأمل في التطورات التي تعصف بالقارة "العجوز"، فهذه أول انتخابات يحقق فيها المعادون لفكرة الاتحاد الأوروبي نتائج تاريخية، وأول ما يعنيه هذا التطور هو أن العالم بدأ يتغير فعلاً أو هو أخذ طريقه لإعادة رسم خريطته السياسية ولن يكون مستقبلاً كما هو الآن . من السابق لأوانه الاعتقاد بأن حصول المناوئين بناء الاتحاد على نحو مئة مقعد أو تزيد في البرلمان الأوروبي، سيعني مباشرة أن الكيان الذي بدأ بناؤه منذ أواسط القرن الماضي قد انتهى، ولكن من المؤكد أن هذه النتيجة ستزعزع الأرضية التي تقف عليها الأحزاب التقليدية ولن يكون صوتها وحده في بروكسل . وستتمكن الكتلة المتطرفة من التصدي لمشاريع الحكومات المختلفة وستسهم في الكشف عن كثير من الإخلالات التي واكبت مراحل الاندماج الأوروبي، كما ستفتح الباب أمام مراجعات سياسية واقتصادية على المستوى الوطني وصولاً إلى القارة عامة . قبل أشهر قليلة حقق اليمين الفرنسي المتطرف بزعامة جون ماري لوبن اختراقاً في الانتخابات البلدية، آنذاك اعتبر الاشتراكيون الذين يحكمون باريس أن ذلك الاختراق ليس إلا جريرة لتعثر الاقتصاد وفوبيا المهاجرين، أما عندما تحصد الأحزاب اليمينية في ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا نتائج مشابهة لنظيرها الفرنسي في انتخابات قارية، فذلك يعني أن هذا التطور ليس أمراً مؤقتاً أو طارئاً بل هو توجه يتغذى من عوامل عدة تتجلى في أكثر من قطاع وبلد . وفي هذا السياق يبدو أن اليمين المتطرف لن يظل كما كان ظاهرة معزولة، بل سيصبح جزءاً من المشهد السياسي الأوروبي، لا سيما في فرنساوألمانيا وبريطانيا، حيث ستتفاقم النزعات إلى الحفاظ على الدولة الوطنية والاستعاضة تدريجياً عن التوجهات الوحدوية الراهنة . فاليمينيون يعتبرون أن خصوصيات بلدانهم مهددة بالذوبان وأن الأعباء الاقتصادية أصبحت أثقل في ظل الأزمة المالية الأخيرة، كما أن عودة الاستقطاب بين قوى عالمية عديدة مثل ما يحصل حالياً بين الولاياتالمتحدة وروسيا يجعل الأوروبيين يشعرون بالذعر ويتخوفون من أن تصبح قارتهم مسرحاً لحرب باردة جديدة وربما حروب ساخنة بدأت نذرها جلية للعيان . ومثلما حملت الديمقراطية قبل تسعة عقود الفاشيين والنازيين إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، فليس هناك ما يمنع تكرار السيناريو، وإن بصيغ مختلفة تتطابق مع مفاهيم هذا العصر . ومما يذكر في هذا السياق أن الانتخابات الأوروبية تزامنت مع انتخابات مثيرة للجدل في أوكرانيا، والرابط بين الحدثين صعود النزعة القومية المدعومة من موسكو في أوكرانيا، وهو ما يدفع بشرائح من الناخبين الأوروبيين إلى التفكير في التقوقع أكثر من التوجه إلى الانفتاح واستيعاب الآخر . رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس اعتبر نتيجة التصويت الأوروبي "زلزالاً" هز حزبه الاشتراكي الحاكم، واعترف بأن صعود اليمين سيقلب الموازين، والشيء ذاته أعرب عنه أكثر من مسؤول أوروبي . وفي ظل محاولات للتخفيف من وطأة النتيجة، فإن مساعي تعزيز جبهة المحافظين والاشتراكيين والليبراليين لمواجهة تقدم المتطرفين، لا تبدو عملية بما يكفي، فالتباين بين هذه الأحزاب يحتاج إلى وقت، والبيت الأوروبي يتصدع، والوقت لا يرحم . المصدر: الخليج الاماراتية 27/5/2014م