هل أعادت أمريكا بناء العراق بعد تدميره كليّاً حتى تخشى انهيار أركانه الآن؟ لم تجيء هذه الجملة الافتتاحية في صيغة سؤال وإنّما في شكل تأكيد ضمني لا يتسرب إليه الشك من بين يديه ولا من خلفه مما فاضت به تحليلات الصحف وأجهزة الإعلام الغربية. ومنها على وجه الخصوص صحيفة الغارديان البريطانية التي عنونت أحد مواضيعها خلال الأزمة العراقية الراهنة بأنّ ما يجمع أمريكاوإيران في العراق هي مصالح مشتركة. ونزيد شِعر صحيفة "الغارديان" بيتاً، بأنّ ذلك لن يقتصر على أرض العراق فحسب وإنّما تمتد لتشمل المنطقة العربية بأكملها. قد يكون هذا الزعم صحيحاً إذا أخذنا في الاعتبار دور أمريكاوإيران وترقبهما الدائم لبعضهما في ظل التحولات على مستوى التحالفات والتوازنات الاستراتيجية التي كانت تمر بها المنطقة العربية خلال الحرب الباردة. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م وتحول القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية وانفراد الولاياتالمتحدة الأمريكية بالزعامة الدولية، تم طرح فكرة النظام الدولي الجديد ووضعت إيران سياستها وتوجهها الديبلوماسي بتكتيك يمكّنها من الاستفادة من اتجاهات تلك الرياح السياسية. وكان الترتيب مبنياً على تسارع خطى إيران الاستباقية حتى تثبت لدول المنطقة وجودها الفاعل والحيوي ومقدرتها على لعب دور الحليف الاستراتيجي البديل لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير. وبعد ثورات الربيع العربي راهنت إيران أيضاً على تلك الأحداث، ففي أعقاب الثورة في مصر اتخذت إيران من دعم القضية الفلسطينية والجوار المصري الفلسطيني، حجة لمشروعية مراقبتها للشأن المصري. وكان كل أمل إيران هو عودتها إلى واجهة الأحداث في مواجهة إسرائيل خاصة بعد حصار ثورات الربيع العربي للنظام السوري الحليف الرئيس لإيران في المنطقة العربية. ليس هناك رابح في هذه المواجهة بين هاتين القوتين الدوليتين، ولكن بالطبع هناك خاسر هو المنطقة العربية. وبالنظر إلى المواجهة التاريخية بين أمريكاوإيران وتنافسهما على كسب حلفاء في الشرق الأوسط، فقد أخذت إيران تقدّم نفسها على أنّها تتوفر لديها المعطيات الحضارية والجغرافية والدينية والثقافية التي تتوقع أن تربطها بالدول العربية وبشكل أكبر من أمريكا. وإذا كانت علاقة إيران تجاه الدول العربية خاصة دول الخليج هي علاقة مواجهة وعداء فإنّها في الجانب العربي الأفريقي اتخذت من منطقة القرن الأفريقي موقعاً مميزاً يمثّل بُعداً اقتصادياً وثقافياً واستراتيجياً يثبتها شوكة على خاصرة الشرق الأوسط. تمتد الصفقة المرتقبة بين إيرانوالولاياتالمتحدة، إلى أكثر من تسوية لأزمة البرنامج النووي، وإنما تشمل وضع إيران في الشرق الأوسط ونفوذها الإقليمي وأحلامها التوسعية. فبإزالة النقاب عما يدور داخل المفاعل النووي الإيراني وضمان أمريكا لامتلاك إيران سلاح نووي لا يهدد الوجود الأمريكي في المنطقة ويرجّح كفة القوة لصالح إيران، فإنّ إيران مستعدة لتقديم هذا التنازل في سبيل تحقيق أطماعها التي هيأتها لها الاضطرابات الحالية في المنطقة. كانت حالة "العداء" والقطيعة الرسمية بين واشنطن وطهران، فيما قبل تتغذى عليها كيانات طفيلية دمرت سلام الوطن العربي، والآن ستفعل الدولتان بأيديهما النظيفة ما كان يُؤدى نيابة عنهما بعد أن تم خلق هذا التحالف والشراكة في المصالح. وستقع خسارة أخرى على دول الشرق الأوسط لأنها ستعلن عن الرغبة المكتومة بامتلاك أسلحة نووية أسوة بإيران، وتدخل هي الأخرى في شراكات وتحالفات وصفقات قد يضيع بها ما تبقى من أرض عربية. كما هناك خسارة من نوع آخر للمنطقة العربية وهي أنّ إيران ستتمكن من ممارسة سلطتها المباشرة على سوريا ومواصلة دعمها لنظام الأسد بعد أن كادت تفقد هذا السلاح. فبعد حصار ثورات الربيع العربي للنظام السوري الحليف الرئيس لإيران في المنطقة العربية، عادت إيران من جديد مهرولة تستقطب الدعم من دول عربية وأفريقية أخرى. ولم يكن ذلك بيسير على إيران لولا بزوغ فجر دولي جديد تمخض عنه تراجع الأحادية الأمريكية لتقف في وجهها أقطاب متعددة لها نفس المصالح في المنطقة وتختلف وسائلها لتحقيق مبتغاها. ومن البديهي أنّه لم يكن ليتحقق هذا السيناريو من التقارب الأمريكي الإيراني الذي يتجاوز العراق ليشمل الوطن العربي، إلّا بعد أن يئست أمريكا من معاداة إيران، وواجهت العديد من الصعوبات في تجاوزها. وهذا ليس بسبب قوة إيرانية مفترضة بقدر ما هو تراجع في الدور الأمريكي ومحدودية مقدرته على بذل مزيد من التشدد معها. المصدر: الراية القطرية 16/7/2014م