تصريحات قوية لوزير التموين والتجارة الداخلية المصري، في الخرطوم نهاية الأسبوع الماضي لصالح العلاقات التجارية بين البلدين لكنها في حقيقة الأمر تجافي الواقع العملي المأزوم.. الوزير المصري جاء مشاركا في الدروة (42) للمؤتمر العام لاتحاد الغرف التجارة والصناعة والزراعة بالدول العربية الذي التأم بالخرطوم.. الرجل اعتبر أن العلاقات بين البلدين تتجاوز الفكر البسيط للتعاون من حيث عمليات الاستيراد والتصدير وتتخطاه إلى التحالف الإستراتيجي.. بيد أنه في الوقت الذي يهدد الفشل الذريع موسم هدي الأضاحي في السودان بسبب تعقيدات بنكية بين الرياضوالخرطوم؛ أُعلن في القاهرة بالتزامن مع زيارة الوزير المصري للخرطوم عن إبرام تعاقد الحكومة المصرية مع نظيرتها الأوغندية بشأن استيراد اللحوم من أوغندا خلال الفترة المقبلة لتلبية احتياجات السوق من اللحوم الحمراء بالتزامن مع اقتراب عيد الأضحى المبارك، على أن يبدأ التوريد إلى مصر ابتداء من (8) أكتوبر المقبل.. وبحسب الغرفة التجارية بالجيزة؛ فإن حجم استهلاك مصر من اللحوم الحمراء يبلغ حوالي (850) ألف طن لحوم سنويا، ويتم استيراد (250) ألف طن لحوم مجمدة وحوالي (50) ألف طن يتم استيرادها رؤوسا حية تذبح في مصر ومعروف أن السودان يعتبر المصدر الرئيسي للحوم الحية المستوردة.. ويعتبر السودان من أغنى الدول العربية والأفريقية بثروته الحيوانية والتي تقدر فيه أعداد حيوانات الغذاء (أبقار، أغنام، ماعز، إبل) ب (150) مليون رأس. وفي نفس الوقت وبسبب سوء إدارة ملف العلاقات الخارجية فضلا عن الضغوط الأمريكية المتزايدة على الخرطوم، يواجه موسم الهدي في السودان لهذا العام بعد مقاطعة البنوك السعودية والخليجية للسودان، فشلا كبيرا.. حيث يخطط مصدرو الماشية واللحوم السودانية هذا العام، لتصدير مليون ونصف المليون رأس من الهدي إلى المملكة العربية السعودية.. لكن التوقعات تشير إلى أن الخسارة قد تزيد على (150) مليون دولار في حال فشل موسم الهدي.. ولم تمهل الرياض المصدرين السودانيين سوى شهر واحد لحل مشاكل الهدي وإلا ستستعين بدولة أخرى لاستيراد ماشية موسم هدي هذا العام. وتعود المشكلة التي قابلتها الخرطوم بقدر كبير من الاستهانة إلى ما قبل مايو الماضي، حين أُخطرت بعض المصارف السودانية من قبل بنوك سعودية وغربية بإيقاف التعامل معها، وأبدى خبراء اقتصاد تخوفهم من أن يؤدي وقف بنوك سعودية وغربية التعامل مع المصارف السودانية لتأثيرات سلبية على مجمل اقتصاد البلاد، وطالبوا الحكومة بإدارة حوار مع المملكة العربية السعودية ودول غرب أوروبا لتفادي ما وصفوه بالخطر القادم.. وزارة المالية السودانية من جانبها، قللت من تأثير المقاطعة التي فرضتها البنوك السعودية ووصفتها بالإجراء العادي، في ذات الوقت قال رئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان السودان وهو من كتلة الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) المسيطرة على البرلمان؛ إن وكيل وزارة المالية أبلغهم بأن الإجراءات الأخيرة عادية، ولكن وسائل الإعلام عمدت إلى تضخيم الأمر، وأكد ذات النهج الاستخفافي القيادي في الحزب الحاكم ومساعد الرئيس السابق نافع على نافع مقاطعة السعودية ودول الخليج للسودان حين نفى مقاطعة السعودية ودول الخليج للسودان، بل شدد على ما وصفه ب"التسريبات" ليست سوى "أمانٍ" من جهات كثيرة. في ظل هذه الاستهانة مضت واشنطن تعتمد تشديد العقوبات على السودان خطوة بخطوة إلى أن اكتملت الحلقة وبدأت تمتد لبقية البنوك غير الغربية، الأمر الذي تزايدت معه مشاكل اقتصادية لا حصر لها خاصة مع زيادة التكلفة على المعاملات المالية بين الخرطوم وبين العالم الخارجي خاصة في مجال الواردات.. ولذا يتوقع الاقتصاديون زيادة التكلفة الكلية للاقتصاد وصعود التضخم مع اشتداد حدة الأوضاع المعيشية المتردية التى لا تخفى على أحد.. وما يزيد الصعوبات أن خيارات التعاطي مع هذا الوضع المأزوم محدودة لأن اللجوء للتبادل السلعي غير ممكن بحكم أن البلاد لا تملك ما يكفيها، فضلا عن استبعاد إمكانية نقل النقود عبر مؤسسات وأفراد إلى منابع الواردات.. ونذكر هنا بتلك الأزمة الدبلوماسية التي كادت أن تعصف بشعرة معاوية بين الخرطوموالقاهرة قبل عدة أسابيع، عندما تحفظت القاهرة على دبلوماسي سوداني قادم من الخرطوم يحمل معه مبالغ كبيرة من العملة الصعبة تبين فيما بعد أنها رواتب موظفين في سفارة الخرطومبالقاهرة. وكان من تداعيات القرار السعودي والخليجي أيضا أن قفزت أسعار صرف الدولار في السوق الموازي السوداني ووصل سعر الدولار في السوق الموازي إلى 8.50 جنيه، في حين أن بنك السودان المركزي، يحدد السعر التأشيري للدولار بمقدار (5.7075) جنيها فقط. في ذات الوقت تراجع كذلك المخزون الإستراتيجي من القمح للسودان، بسبب تمنع مصارف غربية وخليجية من فتح اعتمادات بنكية، عقب رفض البنوك الخليجية التعامل مع المصارف السودانية بل أن بنوكا غربية تعرضت للعقوبات الأمريكية بسبب تعاملها مع الخرطوم؛ فقد تعرض بنك "بي.إن.بي باريبا" الفرنسي لغرامة (9) مليارات دولار من سلطات الولاياتالمتحدة التي اتهمته بأنه كان بمنزلة البنك المركزي لحكومة السودان، وبانتهاك العقوبات التي تفرضها الإدارة الأمريكية على الخرطوم.. علما بأن خطط الحكومة السودانية لتوطين محصول القمح الإستراتيجي منيت بالفشل منذ عام 1993، في ظل تزايد الاستهلاك المحلي، ويستورد السودان أكثر من مليوني طن من القمح سنويا بنحو (5ر1) مليار دولار. السؤال الأكثر إلحاحاً هل تتنبه الخرطوم بعد كل هذا وتعمل على إصلاح علاقاتها السياسية والاقتصادية والدبلوماسية مع الدول الأخرى، الأمر الذي سينعكس – بالضرورة - إيجابا على اقتصادها المتوعك؟. المصدر: الشرق القطرية 14/9/2014م