علي الرغم من تباين المواقف بشأن تقييم نتائج الاجتماع الوزاري الرابع المنعقد في الخرطوم نهاية أغسطس الماضي بين وزراء المياه في كل من مصر والسودان وأثيوبيا فإنه يعبر عن تحول جوهري في استراتيجيات التفاوض المتبعة إزاء سد النهضة الأثيوبي؟ .لقد اتخذ الخطاب الرسمي المصري تجاه سد النهضة منذ ذلك الحين منحي تصالحياً يعترف بحق أثيوبيا في الاستفادة من مياه النيل ولكن دون ضرر بالمصالح المصرية. لم يعد مطلب توقف أعمال البناء في السد ملحاً لدي الجانب المصري حيث أصبح الاهتمام منصباً علي مناقشة حجم البحيرة والفترة التي تستغرقها عملية ملئها بالمياه. وعليه فقد كان المناخ ملائماً لاعادة صياغة الاستراتيجيات التفاوضية المستخدمة في اجتماع الخرطوم الرابع الذي صدر بيانه الختامي في 26 أغسطس 2014. وإذا تجاوز المرء لغة ومضمون هذا البيان الختامي التي جاءت هادئة ومتوازنة والتي لا تقارن بحالة الاجتماع الوزاري الثالث الذي انفض دون بيان ختامي، فإنه يمكن الاشارة إلي أمرين يعبران عن تحول نسبي في مواقف أطراف التفاوض الثلاثة: الأمر الأول يتمثل في إجراء دراستين حول موارد المياه والنظم الهيدروكهرومائية بالإضافة إلي تقييم التأثيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية لسد النهضة علي كل من السودان ومصر. أما الأمر الثاني فيتمثل في اسناد هذه المهمة لشركة استشارات عالمية علي أن يتولي الاشراف علي هاتين الدراستين لجنة وطنية مشتركة تتألف من أربعة أعضاء من كل دولة. وتم الاتفاق علي إكمال هاتين الدراستين في مدة لا تتجاوز ستة أشهر. وتظهر القراءة الموضوعية لمقررات اجتماع الخرطوم الرابع أن أثيوبيا تراجعت عن بعض مواقفها السابقة وقبلت بإجراء دراسات جديدة يقوم بها بيت خبرة دولي وبإشراف لجنة وطنية مشتركة من الدول الثلاث. وفي المقابل فإن مصر لم تعد تطالب بوقف بناء السد وركزت بدلا من ذلك علي مناقشة عملية البناء وطرق التشغيل. ولعل ذلك يؤكد أننا إزاء تحول واضح في المنهج التفاوضي ليعبرعن تبني الأطراف الثلاثة الاستراتيجية التعاونية collaborative strategy والتي تؤكد علي مسألة البحث عن حلول مشتركة وفقاً لمبدأ المنفعة المتبادلة. وطبقاً لأدبيات فن التفاوض فإن المبدأ الحاكم للأسلوب التعاوني يتمثل في ضرورة البحث عن أفضل وسيلة بعيداً عن الطريقة المفضلة لكل طرف من أطراف المفاوضات. ويمكن الاشارة إلي ثلاثة أهداف مهمة في هذا السياق. يرتبط الهدف الأول بالتركيز علي المصالح المشتركة بعيداعن المواقف المعلنة، أما الهدف الثاني فإنه يؤكد علي ضرورة ابتكار خيارات جديدة لتحقيق مكاسب متبادلة، وهو ما يعبر عنه في التفكير الدارج بضرورة التوصل لحلول خارج الصندوق.أما الهدف الثالث فإنه يشير إلي الاصرار علي استخدام معايير موضوعية. وباختصار شديد فإن الجميع رابح في هذا النهج التفاوضي التعاوني الذي يؤكد علي مواقف المباراة غير الصفرية والتي يكسب فيها جميع الأطراف دون إلحاق ضرر أو خسارة بأي طرف. وبالرغم من كل ما سبق يظل التحدي قائماً أمام صانع القرار المصري وهو كيفية الدفاع عن الأمن المائي المصري وعدم التفريط في الحقوق التاريخية المكتسبة التي تقدر بنحو 55.5 مليار م 3 طبقاً لاتفاقية 1959بين مصر والسودان. قد يري بعض الكتاب أن مصر قد تخلت واقعياً عن القول بحجية النظام القانوني السائد لنهر النيل وذلك من خلال قبولها الاستمرار في بناء سد النهضة. بيد أن ذلك قول مردود عليه حيث أن الخبرة التاريخية تشير إلي أن مصر قد وافقت من قبل علي بناء سد أوين في أوغندا وعلي تعلية سد الروصيرص وبناء سد مروي في السودان وغيرها من المشروعات المائية في دول حوض النيل. وعليه يصبح المبدأ السائد والذي ندافع عنه في هذه المرحلة التي شهدت تحولات إقليمية ودولية كبري هو المنفعة المشتركة طبقاً لقاعدة لا ضرر ولا ضرار. إننا ضد الخطاب التصعيدي الذي يساهم في دق طبول الحرب وذلك باستخدام «فزاعة» مياه النيل وتهديد الوجود المصري والقول بأننا أمام حرب وجود. وبالمثل نرفض كذلك خطاب الكراهية والتحريض ضد مصر الذي يتبناه بعض الكتاب والمسئولين في كل من أثيوبيا والسودان. علينا جميعاً أن نعلي من قيم الحوار والتسامح بما يعزز المصالح والمنافع المشتركة لشعوب حوض النيل. ولنتذكر قول الامام علي كرم الله وجهه حينما يقول: يا مالك إن الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». ما الحل إذن؟ علينا في ظل إجراءات بناء الثقة التي تجري علي قدم وساق بين أطراف التفاوض الثلاثة التوكيدعلي أهمية النهج التعاوني في استكمال خارطة الطريق التي تم تبنيها مؤخراً لتسوية أزمة سد النهضة. ولتعزيز هذا المنهج لابد من تطوير أوجه التعاون المختلفة بين أطراف التفاوض ولاسيما في مجالات جديدة تتجاوز التعاون المائي وهو ما يساعد علي تطوير مفهوم المصلحة المشتركة. ويمكن في ظل هذه المتغيرات والتحولات الجديدة آن يتم التوكيد علي ضرورة مشاركة كل من مصر والسودان في بناء وتشغيل السد ، وهو ما يعني المشاركة في اتخاذ القرارات الكبري ولا سيما تلك المتعلقة بارتفاع السد وسعة الخزان وفترة ملئه بالمياه.ولا يخفي أن مصر الجديدة التي أعادت التوكيد علي دورها الأفريقي تستطيع بحكم المكان والمكانة أن تدافع عن خيارها التفاوضي لتسوية أزمة سد النهضة بما يحقق أمنها المائي في ظل شراكة اقليمية فاعلة تعلي من قيم التعاون لتنمية حوض النيل.. المصدر: الاهرام 17/9/2014م