يوما بعد آخر تتصاعد الأزمة وتطفو رائحة الخطر فوق صفحة النيل الهادئ لتحول الدول التي تعايشت على مياهه آلاف السنين إلي فرقاء في لحظة بدت مفاجئة للكثيرين، وذلك حينما قررت دول المنبع التوقيع المنفرد علي اتفاق إطاري جديد لحوض النيل بدون دولتي المصب " مصر والسودان". وشهدت مدينة شرم الشيخ واحدا من أطول الاجتماعات، استمرت وفود دول حوض النيل على طاولة المفاوضات عشرين ساعة متصلة، وخرجت بدون نتيجة، سوى إعلان دول المنبع إنها تعتزم التوقيع بشكل منفرد على اتفاق إطاري جديد لمياه النيل في الرابع عشر من مايو الجاري كما أعلنت الدول السبع رفضها لما طرحته دولتا المصب سواء من شروط للتوقيع على اتفاق جديد للمياه أو للتوصل إلى حلول توافقية للأزمة من قبيل إنشاء مفوضية جديدة للنيل. وتتمسك مصر والسودان بأن يتضمن أي اتفاق حول النيل الحفاظ علي حقوقهما التاريخية في مياه النهر، كما نصت عليها الاتفاقات السابقة، كما تتمسكان بضرورة إدراج شرط الإخطار المسبق عن أية اجراءات أو مشروعات تعتزم أي من دول الحوض القيام بها على النيل، وأن تكون الموافقة على أية اجراءات أو مشروعات بالأغلبية المشروطة بموافقة دولتي المصب، باعتبار أن أي أضرار ستنتج عن تلك المشروعات ستلحق بهما دون غيرهما من بقية دول الحوض. وازدادت الأزمة تعقيدا حينما حددت دول المنبع موعد التوقيع منفردة على اتفاقية لتوزيع المياه في الرابع عشر من مايو، وخرجت تصريحات نارية خاصة من أثيوبيا وكينيا، اتهمت فيها أثيوبيا مصر بالمماطلة في تقسيم المياه، وقالت كينيا إن على مصر أن تشتري المياه إذا احتاجت، وهناك حركة مكوكية حاليا على مستوى الداخل المصري وخارجة، وأيضا زيارات للمسئولين المصريين لدول حوض النيل لاحتواء الأزمة، والتي يقلل البعض منها في مصر، ويصفونها بأنها مجرد زوبعة في فنجان، ويذهب البعض الآخر إلى ضرورة التعامل معها، بالعودة المصرية إلى دول الحوض، لمنع تكرار هذا الخلاف مستقبلا. قرار سياسي يري "هانئ رسلان" رئيس وحدة الدراسات السودانية وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أن النقاط الخلافية بين دولتي المصب " مصر والسودان "ودول المنبع لم تكن فنية، وإنما ذات طابع سياسي. وقال رسلان أتصور أن موقف دول المنبع ناتج عن قرار سياسي أكبر من المستوى الفني الذي يمثله وزراء الري في دول الحوض، مشيرا إلى أنه وقبل أن يحين موعد اجتماعات شرم الشيخ الأخيرة، كانت هناك العديد من التقارير الإعلامية تتحدث عن أن دول منابع النيل لا تزال عند مواقفها، وأن هناك تلويحا بتوقيع منفرد علي اتفاقية إطارية لمياه النيل، واوضح أن موقف دول المنبع في شرم الشيخ كان عدائيا في مواجهة الموقفين المصري والسوداني ورافضا لكل ما يصدر عنهما من اقتراحات. واضاف رسلان أعتقد أنه إذا تمت الموافقة على إنشاء مفوضية لحوض النيل وتركت مهلة عام للتوقيع عليها مثلما تدعو دول المنبع، فإن الإستراتيجية المصرية تجاه هذا الموقف يجب أن يحدث بها قدر من التغيير، وأن تستمر في الوقت نفسه في استخدام كل الوسائل الدبلوماسية والقانونية للدفاع عن مصالح مصر والحفاظ على حصتها من المياه. وشدد على أن هذه المسألة لا يجب ولا يمكن التهاون في التعامل معها، مشيرا إلى أن مصر يجب أن تعمل من منطلق واحد هو أنه لا يمكن تحت أي ظرف من الظروف التفاوض حول حقها في مياه النيل كما أقرتها الاتفاقيات السابقة وأن هذا الحق لا يملك أحد التنازل عنه أو التهاون بشأنه. موقف رسمي وبشأن إمكانية اللجوء إلى التحكيم الدولي يقول رسلان إن هناك موقفا مصريا رسميا واضحا في هذا الشأن يرفض اللجوء الي تلك الخطوة، موضحا أن مصر ترفض أيضا الاتفاق الإطاري بوضعه الحالي والذي تعلن دول المنبع أنها ستوقع عليه منفردة، وقال رسلان إن هذا الاتفاق لا ينتج أثرا تجاه مصر وأن الاتفاقيات السابقة الموقعة منذ عقود ومنها اتفاقية 1929 لا تزال قائمة وملزمة لكل دول الحوض، لافتا إلى أن ما تردده دول المنبع من أن تلك الاتفاقيات تم توقيعها في عهد الاستعمار مردود عليه بأن هذه الدول وجدت من الأساس عبر الاستعمار وهو الذي قام بترسيم حدودها الحالية والتي لا يمكن لها أن تغيرها، ولفت إلى أن هناك أيضا في المعاهدات الدولية ما يعرف ب" الالتزامات الموروثة". واشار إلى أن مصر لن تلجأ للتحكيم الدولي لأن لديها من الاتفاقيات ما يضمن حقوقها وحصتها في مياه النيل، واصفا موقف دول منابع النيل بأن به بعد " صراعي " ويبدو وكأنه لا يبالي بنقل صيغة العلاقات بين دول الحوض من التعاون إلى الصراع، واوضح أن مصر كانت تتبنى دائما الموقف القائم على " النيل الواحد " و" الرؤية الواحدة " و" الحوض الواحد " وكانت — ولا تزال — منفتحة علي هذه الدول انطلاقا من تلك الرؤي، مع تمسكها في الوقت نفسه برفض المساس بمصالحها وكمية المياه المتدفقة إيها. واكد رسلان أن دول منابع النيل تريد التفاوض على كميات المياه المتدفقة في نهر النيل فيما تتحدث مصر عن كميات المياه في حوض النيل وهي كميات ضخمة للغاية وتهدرها دول الحوض التي لا تعتمد بشكل أساسي على مياه مجرى النيل فيما تعتمد مصر عليها بنسبة تتجاوز ال95 في المائة من تلبية احتياجاتها المائية، موضحا أن هناك مشروعات تمت دراستها عبر المبادرة المشتركة لدول الحوض وكان يمكن لها أن توفر مليار متر مكعب من المياه اضافة إلى ما تنتجه من طاقة كهربية وما تساهم به من تحسين لظروف البيئة في المنطقة عبر تخفيض وجود المستنقعات، ويقول إن الخلاف الحالي يعرقل تنفيذ هذه المشروعات خاصة مع توجه دول المنابع السبع إلى التوقيع المنفرد علي اتفاق اطاري يتجاهل مطالب مصر والسودان الخاصة بالأمن المائي والإخطار المسبق والحقوق التاريخية، مشيرا إلى أن مصر أيضا ترفض أي اتفاق لا يتضمن تلك النقاط، لأن القبول بغير ذلك يعني أن مصر " تذبح نفسها بنفسها ". مشروعات مشتركة وذكر أن مصر تطرح إقامة مشروعات مشتركة والمساهمة فيها بما تمتلكه من خبرات فنية، حيث تؤمن مصر أن الأزمة هي في ادارة مياه النيل وليست أزمة مياه، خاصة مع وجود فاقد كبير للغاية من المياه التي لا تستغلها دول المنبع، مؤكدا أن مصر في مواجهة الاستخفاف من قبل دول المنبع يجب أن تعيد ترتيب أوراقها من جديد وأن تدرك هذه الدول أن القاهرة لن تقف مكتوفة الأيدي ازاء أية أخطار تتهدد أمنها القومي، ولفت إلى أن دول المنبع جميعها تعاني من أزمات سياسية واقتصادية ومجتمعية طاحنة ولا يجب أن تترك كل ذلك لتتفرغ لتهديد الأمن المصري. وحول الدور الخارجي في الأزمة أكد رسلان أن هناك تحريضا مباشرا من جانب إسرائيل ومن جانب أطراف دولية أخرى "غير معروفة حاليا " خاصة وأن هناك موقفا من الدول المانحة والبنك الدولي برفض تمويل أية مشروعات لا توافق عليها كل دول حوض النيل، موضحا أن اللافت في الأمر أن دول المنابع لا تبالي بهذا الموقف بما يعني أن هناك تحريضا ووعودا بمساعدتها من قبل أطراف أخرى في تنفيذ المشروعات وتمويلها. ويري أنه لا يوجد خطر " آني " على مصر والسودان في الوقت الحالي بالنظر إلى الضعف الاقتصادي لدول المنبع وعدم قدرتها على إقامة أي مشروعات تهدد البلدين ولكن هذا لا يعني تجاهل الأمر لأن السكوت عليه سيقود إلى مشكلات جسيمة في المستقبل. حرب المياه وحذر السفير الدكتور "عبدالله الأشعل" مساعد وزير الخارجية المصري السابق من أن المنطقة مقبلة على حرب مائية حقيقية، مشيرا إلى أن ما حدث في اجتماعات شرم الشيخ مؤخرا يمثل تطورا خطيرا في الموقف، بعد أن بات الحديث واضحا عن فصل مصر والسودان عن بقية دول الحوض ولجوء دول المنبع إلى توقيع منفرد علي اتفاقية لا تتضمن استجابة للمطالب المصرية والسودانية. ولفت إلى وجود تحريض اسرائيلي واضح أدي إلى تصاعد الأزمة في حوض النيل، وذلك رغم العلاقات الحميمية بين القاهرة وتل أبيب، معتبرا أن ما تقوم به اسرائيل في هذه المنطقة الإستراتيجية من القارة الإفريقية يمثل ضربة للعلاقات مع مصر، وقال أن الخبراء المصريين حذروا مئات المرات من ضياع الدور المصري في أفريقيا، موضحا أن الأفارقة لا يذكرون من مصر سوى الرئيس عبدالناصر وتبنيه لقضاياهم، فيما تآكل الدور المصري في القارة السمراء بعد رحيله. وذكر أنه وقت عمله دبلوماسيا في عدد من الدول الإفريقية كان يسمع من مسؤوليها أحاديث صريحة عن أن مصر تعتبر أفريقيا " البوابة الخلفية لمعاقبة دبلوماسييها ونفيهم إليها "، مشيرا إلى أن هذا الشعور لايزال ملازما للأفارقة في تعاملهم مع مصر، واضاف الاشعل أن مصر " دولة كبرى ولها قابليتها ولكن ليس لها مكانة بنفس تلك القابلية "، مؤكدا ضرورة أن تنتبه القاهرة لذلك وأن تسعي لاستعادة تلك المكانة التي كانت بارزة في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر علي مختلف المستويات. وقال إن مصر لديها " بعض الحق القانوني " في موقفها من دول منابع النيل التي تريد إعادة توزيع حصة المياه، فيما تتمسك مصر بالاتفاقيات السابقة التي نظمت هذا الأمر وخاصة الاتفاق الموقع مع السودان عام 1959 وهو الاتفاق الذي تصفه دول المنابع بأنه اتفاق غير شامل، كما تشير تلك الدول إلى ما استجد لديها من مشروعات زراعية وزيادة سكانية موضحا أن اتفاق الأممالمتحدة بشأن الأنهار يضع القواعد الإرشادية في التعامل مع مياه الأنهار بين دول المنبع ودول المصب، تهديد مباشر واشار إلى أنه على الرغم من تلك الاتفاقات الدولية الا أن دول العالم بدأت تنتبه منذ عام 1991 حين قامت تركيا بحجز مياه نهر الفرات عن سوريا والعراق، إلى أنه بالإمكان التأثير على مجاري الأنهار وخفض معدلات تدفق المياه فيها أو تحويلها للاستفادة من المياه بها وبيعها للدول الأخرى. ويرى الأشعل أن الحكومة المصرية تتحمل مسؤولية التقصير في المواجهة المبكرة للأخطار التي تحيط بأمن مصر المائي، حتى وصل الأمر بدول المنبع إلى أن تسعى إلى اقرار اتفاقية خاصة بها تستبعد منها مصر والسودان وتشكل تكتلا ضدهما ما يعد تهديدا مباشرا لأمن الدولتين. وقال إن نهر النيل " تتبعي " وينتظم الدول المطلة عليه مثل العقد وهناك مواد في القانون الدولي للأنهار تحظر على الدول في مثل تلك الحالة الإضرار بمصالح بعضها البعض وهي المواد التي تتمسك بها مصر، مشيرا إلى أن مصر وصلت إلى أن تطالب تلك الدول بتنفيذ ما هو واجب الاستجابة له، حيث هذه القواعد مستقرة بالفعل في القانون الدولي وفي علاقات الدول ببعضها البعض. وحذر الأشعل من الحديث عن التلويح باستخدام القوة العسكرية ويقول إن ساحة هذه الدول لم تعد قاصرة عليها وانما أصبح هناك وجود لدول مثل اسرائيل والولايات المتحدة والصين وايطاليا وغيرها.. فهل تحارب مصر هذه الدول مجتمعة؟!، معتبرا أن البديل هو في استعادة النظرة الإستراتيجية الشاملة التي تبناها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تجاه القارة الإفريقية والتي افتقدتها مصر منذ رحيله. مسألة حساسة وأكد مصدر دبلوماسي أفريقي في القاهرة أن قضية المفاوضات حول الاتفاقية الإطارية لحوض النيل مسألة حساسة وقد تأخذ هذه المفاوضات بعض الوقت. وقال المصدر ل " الشرق" نحن نرى ضرورة أن تحل الخلافات في وجهات النظر بين مصر ودول المنبع عن طريق المفاوضات، ونشدد في هذا الصدد على أن التصعيد الكلامي سواء في مصر أو في دول المنبع غير مطلوب. واضاف أن العقلاء في مصر وهذه الدول يدركون جيدا هذه المسألة مؤكدا أنه لا يمكن لأحد أن يقبل إلحاق الضرر بمصر أو شعبها واستطرد قائلا: ولكن في ذات الوقت لا يمكن قبول حرمان الدول الأخرى من الاستفادة من مياه النيل. وأبدى المصدر استغرابه من بعض التصريحات التي تصدر في مصر باتهام إسرائيل بأنها تقف وراء رفض دول المنبع " أثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وكينيا ورواندا وبورندي والكونغو " التوقيع على اتفاقية تنص علي الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل، وقال: إن التعامل مع الدول الأفريقية على أنها دول خاوية وليس لها مصالح وأنها تأخذ أوامر من أطراف خارجية أمر يزيد المشكلة ويعقدها. وأكد أن إسرائيل وغيرها من الدول لديها مصالح في الدول الأفريقية بصفه عامة ودول حوض النيل بصفة خاصة ومن حقها البحث عن مصالحها بشرط عدم إلحاق الضرر بأطراف أخرى مشددا على عدم صحة ما يتردد في مصر عن وقوف إسرائيل وراء فشل الاتفاقية الإطارية لحوض النيل. وقال: إنه منذ ستينيات القرن الماضي وهناك دول في المنبع على رأسها تنزانيا أعلنت رفضها لاتفاقية حوض النيل. ودعا المصدر إلى ضرورة أن يكون هناك حوار على قاعدة مشتركة من المصالح بين مصر ودول حوض النيل حتى تعود الأمور إلى طبيعتها. وقال: لابد أن تكون هناك مصالح مشتركة بين الجميع بحيث تستفيد كل هذه الدول من مياه النيل وأن يصبح الحوض وحدة اقتصادية ويتم تحقيق التنمية الشاملة فيه، واضاف يمكن أن يصبح حوض النيل إقليما واحدا بحيث لا يُلحق أي ضرر بمصر وفي ذات الوقت لا يلحق الضرر بأي طرف آخر، مشيرا إلى أن الأمر يحتاج الي نقاش هادئ وشامل لكل الإمكانيات الاقتصادية في دول الحوض بما فيها المياه. المصدر: الشرق القطرية 4/5/2010