الجانب المشرق في بوادر الأزمات الاقتصادية التي تتصدرها قضايا فاتورة المياه والكهرباء وأورنيك 15 الإلكتروني ودولار القمح والجازولين، والموسم الزراعي (سأتطرق لهذا الموضوع لاحقاً)، هي انها وضعت معاش الناس في سلم الاهتمامات. (انه الاقتصاد يا غبي) هذه هي العبارة المفتاحية التي رمز بها بيل كيلنتون حملته الانتخابية ضد جورج بوش الذي كان يعتقد أن خبرته السياسية وتجاربه العملية كافية لتمثل عنصر جذب وإغراء للناخب الأمريكي ليمنحه صوته .. ولكن العبارة الرمز وقعت من المواطن الأمريكي بمكان وخاطبت فيه نقطة الضعف أو مركز الرغبة. الاقتصاد فرض كلمته على صحفنا التي كانت تلهث وراء السياسيين بحثاً عن تصريحات تجريدية لا علاقة لها بواقع الناس، كان الميزان الصحفي معتلاً وهو يحاول إن ينقل أخبار المسؤولين إلى الشعب لا أخبار الشعب إلى المسؤولين. للأستاذ عادل الباز توصيف وجيز لتك الحالة التي تهتم فيها الصحف باخبار المسؤولين وعكس انشطتهم وتهمل فيها قضايا الناس ومشكلاتهم اليومية، كان يقول ان (المايكرفون مقلوب) فبدلاً من ان يتم وضع (المايك) باتجاه الجمهور، والسماعة بالقرب من إذن المسؤولين، يحدث العكس، يتاح للمسؤولين الإمساك بالمايك، أما الجمهور فعليه إن يستمع فقط. هي مقالة صحيحة وملاحظة ذكية تشير إلى قسمة مجحفة بين المسؤول والمواطن في المساحة (بالنسبة للصحف) وفي الزمن (بالنسبة للقنوات والإذاعات)، ولو اعتدل المايكرفون المقلوب، فإن الجمهور سيجد نفسه وصورته (بالمعني الحقيقي والمجازي) بدلاً من أن يجد صورة المسؤول. ولأن هذه القسمة كانت سائدة منذ زمن وأظن انها لن تنتهي عما قريب، فإن الصورة الذهنية للسياسي العظيم في السودان لها علاقة بقدرته على الكلام أكثر من قدرته على التفكير والتخطيط والانجاز للاختراقات الكبر، لذلك لم يرتبط أي زعيم سياسي في السودان بمنجز ضخم، هي فقط زعامات في دائرة حزبها وفق ترتبيات بعضها كسبية وبعضها وهبية، ولكن هالة الزعامة وسحرها لم تتسع لتشمل السودان كله بمشروع يضاف الى أسم الزعيم أو حزبه .. بصراحة (كما يقول عثمان ميرغني) لا أري إن هناك زعيماً من ساستنا له مشروع كبير وبصمة على واقع الناس ومعاشهم، وأظن إن هذه الفجوة هي التي يطل منها العسكريون كحكام يستطيعون القيام بمشاريع تنموية. من الوجوه المشرقة لهذه الأزمة هو ان حزباً مثل المؤتمر الشعبي الذي يفرط في الاهتمام بالقضايا السياسية، أصبح يتحدث عن (الموية)، بدلاً من المحاولات المضنية لبعث الفتاوى المهجورة من جديد، مثل جواز إمامة المرأة للصلاة، وإمكانية مباشرة المرأة لعقد نكاحها بنفسها بدلاً من لا توكيل، أو أن الشروط التي وضعها الفقهاء لرئاسة الدولة (الإمامة الكبرى) لا تنطبق صورتها على أوضاع السياسة الدولية في عالم اليوم .. الخ. أجمل تحريض سياسي مارسه الشعبي على الإطلاق كان تحريض كمال عمر للمواطنين بمقاضاة هيئة المياه بتهمة الثراء الحرام، لا يفوت هذا التحريض في الجمال إلا مطالبته للمجلس التشريعي بولاية الخرطوم بضرورة التدخل ومعالجة الأمر. أرجو أن تجرب المعارضة مناهضة سياسات الحكومة بالتفصيل (في الموية والكهرباء والرغيف) بعد إن جربت مناهضة ساستها بالإجمال ففشلت. نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 2015/7/29م