قياس مدى أهمية الملفات التي حملها الجانب المصري في زيارته الأخيرة للسودان مرتبط بشكل وثيق بتوقيت هذا التحرك الذي وفق كل المعايير يعتبر تحركاً في الوقت الضائع. فالسودان الذي لم يتبق على تفكيك أجزائه سوى أشهر معدودات لم يعد تنفع معه مساع بهذه السرعة ولا بهذه الخفة لعلاج أوضاعه المتأزمة التي لن تكون ذات تأثير مستقبلي على السودان فقط وإنما على المحيط بكل اتجاهاته سواء من عمل مع أو ضد السودان الذي يحتل موقعاً استراتيجياً سنكتشف أهميته بعد فوات الأوان. لا أظن أن فكرة فصل جنوب السودان عن شماله مرتبطة فقط باتفاق نيفاشا الموقع في عام 2005م وإنما هو مخطط قديم ربما يوازي عمر دولة إسرائيل التي احتفلت قبل أيام قلائل بميلادها الثاني والستين. وما الحروب التي اندلعت والتي كان آخرها في عام 1983 وامتدت حتى توقيع اتفاقية السلام إلا دليل قاطع على تدخل القوى الكبرى الداعمة لنشاط الدولة الصهيونية الساعية للسيطرة على مقدرات دول المنطقة التي من أهمها مياه النيل التي تعبر الأراضي العربية ولكن لا تنبع منها. كنا في سنوات الحرب السودانية التي بلغت 22 سنة نتساءل عن الدور المصري ومن بعده العربي في القضية السودانية التي كانت على طاولة القوى الأخرى ولكنها لم تكن حاضرة بتاتاً على طاولة المعنيين. واليوم أيضاً نتساءل أين أشقاء السودان عما يجري فيه؟ علماً بأن كل الخطوات الآحادية التي تتخذها الحكومة السودانية هي مجرد خطوات صغيرة لن تجدي نفعاً في النهاية ولن تكون ذات تأثير في قرار الفصل الذي لم يعد قابلا للنقاش بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل التي رسمت الدور بكل أبعاده وعززته بكل ما يحتاج وتركت التنفيذ الشكلي لقوى الجنوب التي في حقيقتها مجرد أداة سترمى متى ينتهي الغرض منها. المشكلة السودانية أكبر بكثير من تلك الإجراءات التي تتم على عجل وخجل والتي بدأت معالمها تتضح مع الرحلات الخاطفة التي قام بها وزير الخارجية المصري الذي خرج علينا بتصريح يفيد بعدم موافقة مصر على الفصل في الوقت الذي كنا نعتقد فيه أنه سيعلن عن إجراءات يمكنها أن تعيد للأذهان الدور المصري المفقود الذي لا يمكن أن يستمر غيابه حتى في اللحظات التي يستهدف فيها وجوده. من الخطأ الرهان الآن على قدرات دول حوض النيل الضعيفة وعلى إمكاناتها الشحيحة التي لا يمكنها أن تتحكم بمنابع النهر العملاق. فهذا النوع من الاعتقاد كان سبباً في ترك السودان طوال تلك السنين يحارب منفرداً ظناً منا أن مليشيات الجنوب هي مجرد مجموعة أفراد تمردت على الحكم وأرادت فقط لفت الانتباه لها. الحقيقة التي لا نريد أن نراها أن النفوذ الصهيوني تمكن من الإمساك بكل خيوط اللعبة في القارة السوداء التي انتقلت معظم أنظمتها إلى أيادي من يدينون بالتبعية للعصابات الصهيونية التي وفرت المال والرجال والخبرات وجهزت هذه الدول بكل الإمكانات التي تعينها على الوقوف في وجه اخوة الأمس وأعداء اليوم وتنفيذ كل المخططات الرامية لتجفيف منابع هذه الأمة سواء كانت تلك المنابع خاصة بالمياه أو بالثروات الأخرى من نفط وغاز ومعادن. ما تبقى من وقت أمامنا قبل الشروع في تنفيذ مشروع تجزئة السودان يجب ألا يستغل في مثل هذه المساعي التي لا تعدو أن تكون مجرد إجراءات روتينية تصلح فقط لملء الملفات بالأوراق وإشغال أجهزة الإعلام بالحديث عنها مع علمنا أنها غير مؤهلة للمساهمة ولو بحل بسيط لهذه المشكلة الكبيرة . اعتقد أن ما تبقى أمامنا من وقت يجب أن يوظف لوضع حلول عملية تتجاوز كل المسافات وتكون ذات قدرة على قراءة المشهد بكل أبعاده وتستطيع أن تقدر حجم الخطر وإيصال رسالة واضحة المعالم لكل المعنيين بالأمر سواء كانوا الجنوبيين أنفسهم أو حتى من يقف وراءهم ويدعمهم في توجهاتهم. فالوصول إلى مثل هذه النقطة الخطيرة يجب أن يقرأ على أنه نهاية لكل المخططات التي كنا في السابق نتحدث عنها على أنها مجرد تطلعات للمستقبل من دون أن نعي أننا فعلاً نعيش في ذلك المستقبل الذي ظللتنا أيامه. من يقرأ التاريخ ويتمعن في معانيه يدرك أن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا إذا استفزت القوى الكامنة وتم تحفيزها بمثل تلك الإجراءات التي تتخذ اليوم على قدم وساق والتي نرجو أن تكون سبباً في إفاقة أصحاب الشأن من سباتهم. المصدر: الوطن القطرية 15/5/2010