بدأت وتيرة التنافس السياسي وسخونة الساحة السياسية تزداد يومياً بعد إطلاق الحريات السياسية، وتتراشق الأحزاب بالحجج والآراء في الساحات المفتوحة عبر الندوات الجماهيرية التي ظننا أنها ذهبت إلى غير رجعة وذبلت وجفت عروقها وأوراقها، فإذا بالندوات محضورة والجماهير ظامئة لمعرفة الحقيقة والاستماع للقيادات السياسية من كل جنس ولون. ويحسب لصالح الحكومة وللحوار الوطني النجاح في فتح النوافذ لتجديد الهواء السياسي وإصحاح بيئة العمل الحزبي، فمن ندوات المعارضة إلى ندوات التكتلات والتجمعات المختلفة والمبادرات التي قامت لإسناد ودعم الحوار الوطني، وبغض النظر عما يدور وما يطرح من خلال هذه الندوات ومهما كانت درجة الخلاف بين التكوينات السياسية والأحزاب، فإن ما يحدث في حد ذاته هو التغيير والإصلاح المنشود في مجال العمل العام، إذ يحل التحاور والنقاش ومخاطبة الجماهير والتفاعل معها محل العنف والعمل المسلح، وبعد قليل سيتحول حتى العنف اللفظي إلى جدل سياسي بعيد عن التهاتر والمغالطات، فكلما ارتقى العمل السياسي درجات في السلم صفا ولان وأصبح سهلاً وميسوراً. كل هذا يشير إلى أننا في طريقنا لصناعة واقع جديد نتج عن الحوار الوطني، فالحكومة وأحزابها والمعارضة وحركاتها ومجموعاتها، عليها مسؤولية كبيرة في الانتقال إلى مربع الممارسة النظيفة للسياسة، وذلك بأن تتمسك وتضبط نفسها بقواعد اللعبة، وما أحوج بلادنا اليوم إلى إرساء هذه القواعد والأحكام والضوابط، فإن صلحت السياسة صلحت بقية الجسد الوطني من أدوائه وعلله، فقد أفسدت الخلافات والصراعات السياسية وتحولها لنزاعات مسلحة البلاد ووضعتها على شفير الهاوية وقادتها إلى خراب ودمار يمكن أن يتفاقم ويستشري حتى لا نجد بعد حين في حال تماديه وطناً نبكي عليه. فالمطلوب من شركاء العمل السياسي من أحزاب وتنظيمات في الحكومة والمعارضة الارتقاء إلى مستوى تطلعات الجماهير التي تقاطرت إلى ندواتهم واستمعت إليهم، فبعد حين ستقل اللغة الغضوب الحانقة من المعارضة واللغة الساخرة واللاعنة من أحزاب الحكومة، وسيصبح الهم العام والأطروحات الموضوعية هي السلعة الوحيدة المقبولة في سوق الجماهير، ومن لا يستطيع تقديم خدمة سلعية وترويج ذكي لن يفلح أو يربح بيعه مهما فعل، فالقاموس السياسي سيتخلص من تلقاء نفسه من التشنج والاندفاع والمهاترة، وستعمر الساحة العامة بخطابات سياسية أكثر انفتاحاً ونضجاً من المؤيدين للحكومة ومن المعارضة.. وهذه طبيعة الأشياء ومنطقها، فإذا كانت الساحة السياسية كالبرك الراكدة تعفن الماء وفسد، وإذا جرى الماء وتدفق صار نقياً ونظيفاً وصالحاً للشرب والاستخدام، فنحن الآن في مرحلة انتقال من حالة البرك الراكدة في السياسة إلى واقع الأنهر والجداول المتدفقة. وكثير من السودانيين على قناعة راسخة بأن أجواء الحوار الوطني ستفضي في نهاية الأمر إلى تحولات كبيرة في العمل السياسي وستحقق الاستقرار والسلام، وليس ذلك مجرد أحلام أو تطلعات تقف على عكازتين من قصب، إنما حقائق ماثلة تتشكل منها قواعد متينة وصلبة تنطلق منها بلادنا إلى مرحلة التغيير والإصلاح. وعليه هذه ليست مسؤولية الحكومة وأحزابها وحدها، وعلى المعارضة السياسية والمسلحة أيضاً العمل على تعزيز ودعم هذه التوجهات وتقوية دعائم الحريات العامة التي انفتحت أبوابها بترشيد ممارستها واستخدامها، والاستفادة منها في ترقية العمل الحزبي وتهيئة الأحزاب نفسها لتكون في مستوى التحديات الراهنة، فالأحزاب بحاجة إلى ديمقراطية داخلية وبناء تنظيمي سليم، واستعادة الكثير من الكوادر اليائسة والمعتزلة، وإعادة الجماهير إلى الساحات والميادين والملتقيات والليالي السياسية الساخنة.. فإن فعلت ذلك تكون قد أسهمت في احتواء الولاءات القبلية والجهوية، وانتشلت الكثير من الشباب القابعين في دوائر الفراغ وتحويلهم إلى ميدان العمل الخلاق والاهتمامات الجادة بقضايا الوطن وواجباتها وحقوقه علينا جميعاً.