ومرة أخرى في خضم حالة الجمود هذا برزت إلى السطح بوادر الانقسام في تحالف المعارضة الرئيسي على خلفية النزاع حول انتقال رئاسة الجبهة الثورية من مالك عقار إلى جبريل إبراهيم ما أحدث شرخاً عميقاً زاد من إضعاف العمل المعارض ما تطلّب تحريك البركة الساكنة بمواقف سياسية "موضوعية" وأيضاً "عملية" خفضت من سقف الشروط والمطالب لاستئناف العملية التفاوضية في ظل ضغوط يمارسها الحلفاء الغربيون بقيادة الولاياتالمتحدة لتوفير أجواء أقل حدة تعيد الأطراف السودانية إلى مائدة التفاوض من نقطة العملية التمهيدية الإجرائية أو ما كانت تعرف في أدبيات المعارضة بالمؤتمر التحضيري في أديس أبابا الذي ترفضه الخرطوم بدعوى ألا حوار في الخارج. جملة هذه التطورات الداخلية والخارجية تلاقت عند لحظة لكسر هذا الجمود بتوافق جماعي للعودة إلى أديس أبابا لاستنئاف التفاوض، ولكن الجديد هذه المرة أن ترتيب سلم الأولويات انتقل من مواقف تفاوضية عالية السقف ظلت تعرقل المسار التفاوضي في المرات الفائتة إلى تسلسل منطقي كان محل اتفاق أصلاً بين الأطراف الرئيسية في المعادلة السودانية في الوثيقة الوحيدة التي جمعت بينهم في ما يعرف بالاتفاق حول الحوار الوطني والعملية الدستورية الذي تم التوصل إليه في أديس أبابا في مطلع سبتمبر 2014، بين ممثلي مجموعة سبعة زايد سبعة ومجموعة نداء باريس التي ضمت الجبهة الثورية وحزب الأمة القومي. والمسألة الرئيسية في ذلك الاتفاق كانت متعلقة بترتيب يضع في الاعتبار أن إيقاف الحرب هو الأولوية المقدمة على عداها بغرض تحقيق الهدف المنشود وهو أن الحل السياسي الشامل هو باتفاق الأطراف الخيار الأمثل لحل المشكلة السودانية. وجرى في تلك الوثيقة التأكيد على أن الوصول إلى اتفاق لإيقاف الأعمال العدائية ومخاطبة الوضع الإنساني يمثل الأولوية القصوى في إجراءات بناء الثقة بإيقاف الحرب أولاً عبر ترتيبات أمنية توقف القتال، ثم تمضي إلى تحقيق إجراءت بناء الثقة الأخرى ومن بينها ضمان الحريات الأساسية واحترام حقوق الإنسان، وإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين سياسياً، كأولوية في عملية بناء الثقة وتهيئة الأجواء المواتية للحوار، وحسب ذلك الاتفاق فإن الحوار والعملية الدستورية تبدأ عقب الاتفاق على القواعد والإجراءات المنظّمة التي يجري على أساسها الحوار، وتكفل لجميع المشاركين في الحوار التعبير عن رؤاهم ومواقفهم. كما أن الحوار سيجري وفق جدول زمني متفق عليه. والمفترض أن العودة إلى مائدة التفاوض في أديس أبابا تتميز هذه المرة بوضع الحصان أمام العربة، وليس العكس الذي كان سبباً دائماً في عرقلة فرص أي تقدم، فالجولة المستأنفة معنية في هذه المرحلة ببحث مسألة أساسية هي إيقاف الحرب كشرط أساسي لبناء الثقة وإطلاق عملية تسوية سياسية شاملة، وهي بهذا المعنى ذات طابع عسكري بالأساس بالطبع على خلفية ضرورة توفر إرادة سياسية لا مناص منها، ومهمتها هي وضع الترتيبات اللازمة لإيقاف الأعمال العدائية، ثم مخاطبة القضايا الإنسانية، ثم يأتي لاحقاً توفر الأجواء المواتية للانتقال إلى الترتيبات التحضيرية الأخرى في أجندة بناء الثقة لاستكمال تهيئة المناخ للدخول في حوار يفضي إلى تسوية سياسية شاملة. وعلى الرغم من التصريحات الصحافية الاستباقية من كلا الطرفين التي تبدو ذات طابع متشدد إلا أنهما في واقع الأمر مدركان لطبيعة هذه الجولة ولحدود المطلوب منها، فهي ليست جولة للتفاوض حول المؤتمر التحضيري المثير للجدل، وليست ذات أجندة سياسية تتجاوز الترتيبات الأمنية المفضية إلى إيقاف الحرب. وهذا ما يتضح في بيان قوى نداء السودان الذي أصدرته في نهاية اجتماعاتها في باريس الأسبوع الماضي حول "الموقف المشترك من الاجتماع التحضيري والحوار القومي الدستوري" فقد أعلنت استعدادها لبدء عملية سياسية متكافئة لإيقاف الحرب وتحقيق السلام الشامل والديمقراطية، وأضافت "ورغبة منا في إنجاح هذه العملية لا بد من إجراءات لتهيئة المناخ تبدأ بإيقاف الحرب وتوفير الحريات والاتفاق على الإجراءات السليمة لتسيير مؤتمر الحوار القومي الدستوري" ، وهذه في الواقع ليست سوى بنود وثيقة أديس أبابا الموقعة بين مجموعة نداء باريس وممثلي مجموعة سبعة زائد سبعة، وأقرت بأن الغرض من الدعوة للجولة الحالية هي "لمفاوضات إيقاف الأعمال العدائية لأغراض إنسانية ومعالجة أسباب الحرب وأثارها في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق كجزء من حزمة الإجراءات لتهيئة المناخ للبدء في حوار قومي دستوري" ، ولهذا السبب فإن هذه الجولة مقتصرة على الأطراف الحاملة للسلاح وهي الحكومة والحركة الشعبية شمال حول المنطقتين، وحركات دارفور. من جهتها تحاول الحكومة إضفاء مكسب سياسي على ذهابها إلى التفاوض في أديس أبابا وكأنها تحدد من هي الأطراف أو أجندة التفاوض، وهي تعلم أن الجولة مقتصرة على بحث ترتيبات ذات طابع عسكري وأمني لإيقاف الأعمال العدائية، وبالتالي فليس وارداً في هذه المرحلة إلحاق آخرين بجولة التفاوض الحالية. والملاحظ أن الطرفين الحكومة والجماعات المسلحة يخوضان هذه الجولة وقد استبقاها بإعلانين منفصلين لإيقاف إطلاق النار بمبادرتين منفردتين، حيث كانت الحكومة أعلنت من جانبها إيقافاً لإطلاق النار لمدة شهرين، بينما أعلنت الجبهة الثورية من جانبها إيقافاً لإطلاق النار لستة أشهر، وهو ما يسهّل مهمة الوسطاء أنها لم تعد بحاجة لإقناعهما بذلك، ولكن تبقى مهمتها تطوير المبادرتين إلى اتفاق وترتيبات مشتركة تحقق هدف إيقاف الأعمال العدائية لتهيئة الأجواء للخطوة القادمة للدخول في أجندة الحوار نفسه بكل تعقيداته المنتظرة. المصدر: الراية القطرية 24/11/2015م