على أيام غزوته الشهيرة لأمدرمان، كان د.خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة شبيهاً بالشبح في مخيلة البعض، قادراً على الإفلات من حواجز الجغرافيا والسلطات، يتوقع ظهوره في أي شارع وأي توقيت، على ظهر (تاتشر) غبراء اللون، ملفوف الرأس مرتدياً بزته القتالية، وتواترت حينها الأنباء والشائعات حول ظهوره في مكان، والقبض عليه في ثانٍ، وهجومه على آخر ثالث، وامتلك الرجل أيامها الكثير من خيارات الحركة، نظرياً على الأقل، كالاختفاء داخل بيوت أنصاره بالعاصمة مثلما فعل بعض مساعديه، أو الخروج إلى إحدى الولايات مثلما فعل أخوه عشر، أو العودة إلى جبال دارفور وسهولها، ومنها إلى تشاد إذا لزم الأمر، وعكست تصريحاته حينها حالة وفرة الخيارات تلك، إذ أكد في اتصالاته العديدة مع الفضائيات أنه يتجول في أنحاء الخرطوم بحرية وسط المواطنين الذين التفوا حوله وحول جنوده، رغم أنه كان حينها في واقع الأمر يحاول أن يشق طريق الانسحاب عبر الصحراء التي أتى بغتة منها، نحو مناطق دارفور النائية وطرق العبور إلى تشاد، مفلتاً من مطاردة القوات المسلحة. ... مغامرة خليل الكبيرة تلك، رفعته بعض الوقت إلى مرتبة زعيم مسلح غير اعتيادي، لا تعييه أو تشغل باله هموم من قبيل المكان الذي يأوي إليه، أو الموقع الذي يحيك منه خطط هجماته، أو جواز السفر الذي يستخدمه، تلك الصورة الذهنية لخليل بقدرات على الحركة خارقة للمألوف، لم تقتصر على الأوساط الشعبية وحدها، بل عكستها تحركات السلطات التي لم تستبعد طوال أيام أن يأتيها خليل وجنوده من هذه الجانب أو ذاك، أو يهجم على هذه الجبهة أو تلك. تلك الصورة، قلبها رأساً على عقب ما حدث لخليل يوم الأربعاء الماضي، عندما وصل مطار أنجمينا قادماً من القاهرة عبر طرابلس، وهو ذات المطار الذي كان مفتوحاً أمامه لمرات كثيرة في الماضي، لكنه أغلق في وجهه هذه المرة، إذ احتجزت السلطات التشادية رئيس حركة العدل والمساواة لساعات طويلة، ونزعت جواز سفره وجوازات بعض مساعديه، قبل أن تعيده على ظهر ذات الطائرة التي جلبته إلى طرابلس، التي لعبت في سيناريو الأربعاء دور منقذ خليل، خاصة وأن بعض المعلومات لم تستبعد استقدام الرجل للخرطوم، لو أن بقاءه بأنجمينا طال أكثر. ما انتزع من د.خليل، لم يكن مجرد جواز سفر ورقي فقط، بل كان جواز عبور سياسي، وأمني، يتيح له خيارات عديدة للحركة الدبلوماسية، والأهم، أن ذلك الجواز السياسي مكنه لوقت طويل من الحصول على ممر آمن للسلاح، والإمدادات، وإدخالها إلى قواته بدارفور، فضلاً عن فتح معسكرات التدريب، والإسناد الفني، والطبي. طرد تشاد لخليل، وإن كان متوقعاً منذ توقيع اتفاق أنجمينا الأمني بين السودان وتشاد قبل أكثر من شهرين، يطرح السؤال التالي: أين سيذهب خليل؟ ومن سيقبل باستضافته؟ ومقابل ماذا؟ وهل سيفرض ذاك المضيف الافتراضي- إن وجد- على العدل والمساواة أجندة بعينها، أم أنه سيترك لها المجال مفتوحاً لتفصل قراراتها على مقاس يناسبها وحدها؟ الإجابة على سؤال محطة رئيس حركة العدل والمساواة القادمة، تعود بالذهن إلى من استضافوا خليل في السابق وفتحوا أمامه حدودهم ومطاراتهم، وزوده بعضهم بالمال، والسلاح، والدعم اللوجستي، أو وفر له قناة ملائمة لاستقبال المساعدات، وبخلاف تشاد، فإن العدل والمساواة ربطتها في الماضي علاقات قوية مع إريتريا، وكانت الحركة تخطط لفتح جبهة قتال من ناحية الشرق، بقوة قيل ان قوامها ألف وخمسمائة جندي وفرت لهم أسمرا معسكرات تدريب على الحدود ، كما كان الأخ غير الشقيق لخليل، عبد العزيز نور عشر في طريقه إلى إريتريا عندما تم القبض عليه في شرق السودان عقب مشاركته في الهجوم على أمدرمان، أما ليبيا التي استضافت رئيس العدل والمساواة الآن وأنقذته من ورطته في مطار أنجمينا، فقد حافظت على علاقات وطيدة مع الحركات المسلحة منذ بداية القتال، نظراً لانخراط أعداد كبيرة من أبناء دارفور في اللجان الثورية الليبية، ووجود أعداد كبيرة منهم في ليبيا، وحسابات طرابلس الخاصة في دارفور، وتشاد، لكن موقف ليبيا المعلن في الآونة الأخيرة مضى باتجاه دعم العملية السلمية والتفاوض. أسمرا، على ذات منوال أنجمينا، لا تبدو اللحظة مناسبة لها لاستضافة رئيس حركة العدل والمساواة في هذه المرحلة، فعلي غرار تشاد، شهدت العلاقات السودانية الإريترية تحسناً ملحوظاً، وينطبق ذات الأمر على الجارة الشرقية الأخرى، أثيوبيا. باستبعاد إمكانية استضافته في أثيوبيا أو إريتريا أو تشاد، تضيق فرص خليل في الحصول على منصة انطلاق مناسبة للانقضاض على الحكومة من الغرب كما فعل سابقاً، أو حتى من الشرق كما خطط في وقت ما، ويقول اللواء حسب الله عمر نائب مدير المخابرات السابق إن خليل لن يجد دولة ذات ثقل سياسي تؤويه، ولن يجد وضعاً شبيهاً بوضعه السابق في تشاد، فقد يمضى إلى أطراف الدنيا، أو إلى مناطق مجاورة في أفريقيا لكنها لا تمكنه من قيادة عمل عسكري فعال في دارفور، ما يرسم بصورة أو أخرى صورة غامضة لمستقبل الرجل الذي قدم نفسه كزعيم عسكري قوي، فقد الآن الكثير من تلك القوة بسبب متغيرات إقليمية وأخرى في الميدان، وأصبح خارج دائرة الفعل بعدما بات قراره عند الآخرين، يقررون إن كانوا سيستضيفونه أم لا، وبأي شروط. محطة خليل القادمة بالنسبة للحركة كما يقول أحمد حسين آدم الناطق باسمها هي الميدان. ويرى البعض أن خليل وحركته بعد الانتخابات ليسا بخليل وحركته قبلها، فالولاة والنواب المنتخبون دخلوا كرقم في معادلة ممثلي دارفور، كما أن سطوة الحركة العسكرية تراجعت لأدني مستوياتها عقب سيطرة الجيش على معقل خليل في جبل مون، وتوجه العدل والمساواة لأعمال من قبيل مهاجمة القوافل المدنية التجارية، ما يشكك في شرعيتها الثورية المرتبطة بمطالب سياسية، ويقترب بها من عصابات النهب والجريمة. وجود خليل في القاهرة- التي رفضت في السابق فتح مكتب للحركة- تسبب في نوع من التوتر خاصة بعد طلب الاعتقال الدولي الذي سلمته الحكومة للإنتربول، ما يجعل استضافة أية دولة له مدعاة لذات التوتر مع الخرطوم، ما يستدعي- في حال الاستضافة- وضع الكثير من الاشتراطات على خليل، سيكون في مقدمتها على الأرجح نبذ العمل العسكري، وإظهار مزيد من الجدية في المفاوضات. التضييق على د.خليل، ونزع جواز سفره، وضربه بقوة عسكرياً، في محاولة عنيفة لحمله على التفاوض وقبول ما تقدمه الخرطوم له، يرى فيه البعض أسلوباً خطيراً قد يأتي بنتائج عكسية، ويقول الفريق إبراهيم سليمان والي شمال دارفور الأسبق ورئيس لجنة توحيد الفصائل إن الهدف الأساسي في دارفور هو السلام، والسلام يحتاج إلى حوار، والحوار لا يكون بلا روافع واتصالات، أما إغلاق معظم الأبواب أمام خليل فسيدفعه في نهاية المطاف إلى محاولة فك الحصار بأي ثمن، وقد ينتشر في الفيافي وأنحاء كردفان ودارفور بعد إخراجه من معقله في جبل مون حيث كانت السلطات ترصد تحركاته بسهولة أكثر، وقد يلجأ لمهاجمة القوافل بعد قطع إمداداته اللوجستية من تشاد. كلاهما، خليل والخرطوم، اختارا على ما يبدو المضي في لعبة لي الذراع إلى آخرها، الأول عندما أصر على سقف مطالب مرتفع في المفاوضات، والثانية عندما أصرت على رفض مطالبه ولجأت لمحاصرته سياسياً وعسكرياً وقطع خطوط إمداده، وفيما يتوقع البعض أن يعود رئيس حركة العدل والمساواة إلى الدوحة مفاوضاً بعدما أسقط في يده، يحذر آخرون من أن خليل بعدما فقد جواز سفره التشادي الذي قيل إنه مزور، قد يندفع إلى تحركات سرية وأعمال انتقامية، أو يجد من يعطيه جوازاً آخر، يعود به لمواصلة الأسفار، والقتال. نقلا عن صحيفة الرأي العام السودانية 23/5/2010م