الحوار والحراك الوطنى الذى يجرى الآن وينتظم كافة شرائح الوطن حول الوحدة والانفصال لدى كافة الأوساط السياسية والنخب المجتمعية والاعلام ، تجاوز الرغبة والأمانى الى مرحلة الاختبار العملى لهذا الحق الذى كفلته اتفاقية السلام الشامل ونص عليه الدستور كمرجع يلبى رغبة بعض أبناء الجنوب الذين يرون بهذا السبيل خياراً أوحداً لمستقبل حياتهم وحريتهم حتى يصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى كما يرى زعيم الحركة ( سلفاكير ) وبعض صفه الأول !. وبالمقابل أغرى هذا التوجه الذى كفل هذا الحق لآبناء الجنوب دون سواهم (والذى أراه بغير المنصف وطنياً) ،أنه قد حمل بعض القوى الشمالية وقطاع عريض الى اتخاذ نهج مواز لهذه الرغبة فيما يراه ويعبر عنه منبر السلام العادل الذى يدعو ويعمل لفصل الشمال عن الجنوب لاعتبارات ومبررات حتى وان رآها البعض زاهدة وتغالى فى ايجاد الحل الوسط أو البناء على نقاط الالتقاء بين أبناء الوطن الواحد ضمن التسوية الماضية ، الا أنها فى حدها الأدنى هى نتاج تاريخ وواقع معاش ومشاعر كراهية ومدافعة مشروعة ولدتها بعض الممارسات الجنوبية والعصبيات و ازكاء النعرات العنصرية ازاء الشمال !. و لم يعد الحديث هامساً أو عاطفياً تجاه هذه الغايات كيفما كانت نتائجه وما يترتب عليه من آثار وأبعاد على مستقبل الوطن ومخرجات الاستفتاء وما يسبقها من شواهد لجهة نتيجة الانتخابات القادمة وشكل الخارطة السياسية التى ستتشكل والوجهة التى ستحل بالبلاد !؟ . أسئلة كثيرة تراود كل تيار وهو يعمل ويتوقع لرغبته أن تتحقق ويا له من هدف يكفى أنه ولد هذا التابين والاختلاف ، فصعدت عبر روحه وما ولد من سجال النظرة الحزبية والطائفية والجهوية الضيقة والمصالح الشخصية المدفوعة بالكيد ، لتنحدر الروح القومية والوطنية عند البعض الى أدنى درجاتها ووصلت لدى البعض حد اليأس ، وغابت عند بعضنا الحكمة والبصيرة النافذة التى تحكمها مقاصد الوطن العليا والأحلام الكبارالتى تمثل قضيا السودان المركزية بعيداً عن المزايدات والابتزاز السياسى !. فاستجمع كل طرف قواه وجند طاقته وآلياته ووسائله ودفع بها الى ساحة المبارزة والتعاطى اليومى والتى تعلو وتنخفض وتيرتها وتتأثر بتداعيات الصراع السياسى الذى يصل حد المشاكسة والتوتر فى أحيان كثيرة بتصريحات بعض الساسة غير الموفقة أو المسئولة والتى كثيراً ما أفسدت الأجواء !. ويذهب التحليل يمنة ويسرى كل له دافعه وتقديره ، وترقى المخاوف والظنون لمستقبل يصعب التكهن به ، والكل ينتظر نتيجة ما لصالحه والعد التنازلى يبدأ ، والاشفاق وطنيا يزداد والحيرة تلف البعض ، والاقليم موعود بتطورات لم يحن وقتها ، والعالم من حولنا له سهمه ودعمه عبر واجهات ومخطات وأجندات حددتها استراتيجيات الدول الكبرى فى المنطقة فى تفكيك السودان عبر الجنوب والأزمة فى دارفور !. وبعيداً عن التفكير الرغبوى والتقديرات الشاطحة والتقييم الجانح لقدرات الجنوب وامكاناته لجهة اقامة دولة مستقلة وفق الأسس والمعاييرالمتعارف عالميا ، كما يتصورها ويسوقها بعض طلاب الانفصال واقامة دولة الجنوب داخل صف الحركة الشعبية ، الا أن الكثير من الدراسات والتحليلات الموضوعية ومؤشرات القياس العام أبانت ضعف امكانات الجنوب لوحده فى النهوض بمسئولياته كدولة فى حال اختار ابنائه الانفصال ، ومضوا أهله صوب هذه النزعة التى يروج لها تيار نافذ فى الحركة له أهدافه وارتباطاته. شواهد كثيرة تعضد هذه الرؤية أولاها ( الحركة الشعبية نفسها ككيان ) بتاريخها ونشأتها وتقلباتها لجهة العقيدة والأفكار والمرتكزات ، وما طالها من تغلغل ووهن نخر فى جسمها منذ بواكيرها ( اليسار الشيوعى - أبيى – جبال النوبة والنيل الأزرق – التهميش ) ، فضلاً عن ارتباطاتها الاقليمية وتحالفاتها الخارجية التى تقدم التكتيكى على الاستراتيجى !. وهيكل القيادة فيها وصناعة القرار وما تكشف من أقطاب ومراكز نفوذ ، واسقاطات مصرع د. جون قرنق ورؤيته فى اقامة ما أسماه ( بالسودان الجديد ) ومدى تمثيلها للجنوب بكل أطيافه وأعراقه ومكوناته ، وتجربتها الماثلة فى الحكم والشراكة ، وهروبها عن استحقاقات المواطن الجنوبى فى الحياة والعيش الكريم ، وماهية الوجود الشمالى داخلها ، وعلاقاتها بالقوى الشمالية الأخرى ، وتجربتها السياسية والتحول من نهج التمرد والغابة الى كيان سياسى يستطيع بسط سيطرته على الجنوب كرقعة ، وتأسيس مطلوبات الحياة المدنية والتحول الديمقراطى. وقبل ذلك كله مدى قناعاتها باتفاق السلام الشامل الذى أبرمته مع المؤتمر الوطنى وتعيش حصاده وتبعاته ومآربها من ورائه التى ستكشفها الأيام !. محاولات كثيرة جرت تبتغى الوصول الى ما يمكن أن يؤول اليه حال الجنوب والوطن بكامله من وراء رغبة الانفصال ، وهل الفترة التى منحها الاتفاق لأطرافه ( ستة سنوات ) كانت كافية بعد هذا الصراع المرير بكل تضحياته ومآلاته لابراء الجروح وتضميدها جراء المرارات التى لحقت بكل طرف ، وهل اكتشف أى طرف موقعه من بلده وهويته التى محلها التعايش السلمى والتواصل والتلاقح لأجل غد أفضل للكل !. هذا بعض ما كشفت عنه دراسة صادرة عن المعهد الأمريكي للسلام تناولتها بعض وسائل الاعلام المحلية ، تحت عنوان "سيناريوهات السودان" من إعداد الباحثة آلان شفارتز، وما أبدته من قلق على السودان ومقدرته فى العبور باتفاق السلام الى بر آمن وامكانية تفادي موجات العنف السياسي المكبوتة حتى عام 2011 م أي حتى موعد الاستفتاء.. ! أخطر ما فى هذه الدراسة أنها تكشف ما لم تقله مراكز الأبحاث الأمريكية الكبرى الأخرى عن الجنوب رغم توفر المادة لديها ، والعديد من مراكز البحوث وصناعة القرار الاستخباراتية ذات الارتباط بالحكومات الأوربية ، حيث أشارت فى تحذير صريح ما لم تحدث تغييرات جذرية وهيكلية فى بنيته (وهذا ما لا يتوافر الآن ) فإن الجنوب لا يملك مقومات دولة وقد ينشب فيه عنف سياسي ينتشر شمالاً، وسيتمدد ليطال الاقليم والأسباب متعددة أبرزها هي: 1/ الاخفاق في توفيرأدنى المقومات من غذاء وماء وكساء وصحة وخدمات دعك عن الطاقة وعدم تشييد الطرق والبنى التحتية الأولية !. 2 / النزاعات القبلية والبيئة التى تهيئت لها بحكم التقسيمات الجنوبية وتفشى العصبيات والمليشيات التى تقوم على مكون عرقى ومصالحها المرتبطة بالنفط والأراضى وما يلحق بها من زراعة و رعى ، وجنرالات الحرب وسماسرتها الكثر ! 3/ بذرة العنف في جنوب كردفان وجبال النوبة أو النيل الأزرق التى عاشت سنوات الحرب وأسهمت فى تأجيجها ، وكانت أقل كسبا من عائدات السلام وما تزال بعض بذور الفتنة تلاحقها اذا ما تحقق الانفصال !. 4/ عجز حكومة الجنوب فى اثبات قدرتها واحكام سيطرتها وبسط واشاعة هيبة القانون وتمدين الحياة ، بل وعجزها عن نزع سلاح المليشيات وغيره..، لاعتمادها على الجيش الشعبى فى تحقيق مطلوبات الأمن والاستقرار وهو أعزل من المفاهيم والأدوات !. 5/ غياب الرؤية لدى قادة الحركة ازاء تحديد الأولويات وتوظيف الموارد لضعف الارادة السياسية ، اضافة الى عدم تحلي المسئولين بالمسئولية وفق معايير الشفافية والنزاهة والمحاسبة فى ادارة المال العام !. مفارقات عدة يفرزها واقع الجنوب على أيام الحركة الشعبية وممارستها للحكم يوم أن سعت اليه الأحزاب الشمالية لتتخندق معه فى جوبا بقصد ازاحتها عن مسار السلام وجذبها لقوى المعارضة ، وبالمقابل تهرب عن أرضه قواه السياسية لتناقش مستقبلها السياسى وما يواجهها من تحديات بالخرطوم ( مؤتمر الحوار الجنوبى – الجنوبى ) فى غياب الحركة الشعبية أكبر أحزاب الجنوب !. وتمضى الكاتبة فى قراءتها لواقع الجنوب أبعد من ذلك لتحدد فى دراستها عدة إجراءات مستحسنة منها ضرورة مراجعة الولاياتالمتحدة للعقوبات المفروضة على السودان وطمأنة الصين بأن مصالحها لن تضار، والحركة تريد لواشنطن أن تمارس المزيد من الضغط على الخرطوم ! .. ومنها أيضاً عدم اعتماد الجنوب على وكالات الأممالمتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية في توفير الاحتياجات الضرورية و توزيع الإعانات. كما تذكر أيضاً أهمية وجود جهاز للشرطة وحكم القانون بالجنوب واعمال الضوابط المالية والرقابية مثل نشر الموازنة ورقابة البرلمان على الحكومة لمواجهة الفساد ووحدة وتماسك حزب الحركة الشعبية لأن تفككه سيؤدي الى نزاعات أو الى حكم غير مؤثر أو فعال، (وهذه من أبرز عوامل ضعف حكومة الجنوب الآن). وتوصي الدراسة بتدابير مهمة مثل علاقات أمريكية طبيعية مع الشمال هى الأدعى لتماسك الوطن وقوته ، وإزاحة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ثم الاتصال بروسيا والصين وأوكرانيا وجنوب افريقيا وبريطانيا وغيرها من الدول للحد من انتشار السلاح وما أحدثته من فوضى أمنية واضطرابات ، مع تشجيع الجنوب على تطوير مقدراته الدفاعية فقط ، والتى أفرطت فيها الحركة وجاءت تعزيزاتها العسكرية على حساب لقمة المواطن ومتطلباته الحياتية !. والنقطة الأخيرة التى تناولتها الباحثة تبقى مهمة، لأن جهات أمريكية أخرى ومجموعات ضغط كثيرة تدعو الى بيع طائرات مقاتلة للجنوب وتشجيع المغامرين من دعاة الانتقام من الشمال، على الاستعداد لإعادة إشعال الحرب بالهجوم على الشمال وتحقيق نبوءة باقان أموم !. وميزة الدراسة أنها لا تعامل الجنوبيين كأطفال مدللين ينبغي الاستجابة لكل رغباتهم كما تدعو الحركة من واقع حملاتها الداخلية والخارجية ، وانما تخاطبهم كسياسيين كبار يتعين عليهم أن يواجهوا الحقائق الماثلة أمام أعين العالم مثل عدم وجود كوادر بشرية مؤهلة لإدارة الحكومة وأجهزتها وعدم فعالية أجهزة مكافحة الفساد، ومثل قولها: إن الجنوب لا يملك مقومات دولة في وضعه الحالي ولن يكون بمقدوره قريباً فى ظل الخلاف الذى سيلازم بحث القضايا الموضوعية بين الدولتين فى حال الفكاك !. هذه الدراسة خطيرة (بحسب وصف بعض المراقبين) لأنها لا تهم الجنوب وحده، ولا الأطراف موضع الاتفاق ، بل تهم الشمال بكل قواه إذا لم تعالج نقاط الالتهاب وحدثت فوضى بالجنوب، فإن الشمال لن ينجو منها ومن نتائجها!!. لقد كان للحركة الشعبية قبل اتفاقية السلام علاقات مع "اسرائيل" وما تزال ومع عدد من دول الجوار والعالم تمدها بالسلاح والدعم بكل أشكاله وتلتقى معها فى المصالح ، وإذا ما انفصل الجنوب سيكون ضعيفاً في مواجهة امتحان ( الحراك الجنوبى الداخلى ) فى ظل السطوة التى يمارسها على مخالفيه ، وكذلك أمام هذه الدول والكيان الصهيوني الذى يتواجد فيه بكثافة رغم نفى د.منصور خالد لهذه الحقيقة ! والصراع الدولى بتاريخه واستحقاقات فاتورته فى تغذية النزاع هناك سيتفاقم سيما و أن الكل يريد أن يتحكم به عبرصراع الارادات والنفوذ ! . من هنا فالأفضل للعقلاء من أبناء الجنوب أن يعملوا لأجل أن يبقى قويا ومصاناً وماضياً نحو التقدم والرقى والنهضة والاعمار تحت حكم ومساعدة وحماية حكومة وحدة وطنية شاملة في ظل سودان موحد وقوى ، قبل أن يكتوي بنيران الانقسامات القبلية وارتداد الخنجر الى خاصرته ، فعلى أبناء الجنوب بصفة خاصة والوطن قاطبة تلمس هذه الاشكالات بصورة أكثر عمقاً ودراسة الأمر بصورة جادة بوقفة سودانية متأنية ، وكسب الوقت المتبقى واستدراك العواقب فيما يفيد قبل حدوث المخاطر والمهددات تحيط به كل جانب !. مناطق التماس التى جرت معالجة بعض أوضاعها كما فى أبيى والتى تنتظر لن تكون فى صالح استقرار الجنوب كما يتصور بعض الساسة فى الحركة ، وقوات جيش الرب على تخومه وهى معضلة أمنية بذاتها ، وقضية مصرع قرنق ومستقبل العلاقة مع يوغندا كلها بؤر يمكن أن تنفجر فى أى لحظة، بل وقضايا الحدود مع دول أخرى وتعقيداتها لن تكون هموماً عابرة أو خصاما مع طرف داخل الوطن !!. والذين ينظرون الى مورد النفط بمعزل عن الموارد الأخرى فى ظل التقلبات الحادثة فى سوقه عالمياً بحسبانه رافد رئيس للقوة ومحرك للاقتصاد سيكتشفون غداً أن رحابة الوطن فى سعة أرضه وانسانه ومياهه وخيراته الأخرى مجتمعة ، وأن الانفصال سيخلق مشاكل مائية واقتصادية وأمنية بسبب التداخل القبلى بين الشمال والجنوب ، وأن أكثر من (85%) من مياه النيل تأتى من أثيوبيا وليس من يوغندا !.والسؤال الملح الآن ما هو مفهوم " تحرير السودان " والفلسفة التى يقوم عليها !؟ ولماذا لم يجنى أهل الجنوب السلام رغم تسلم حكومتهم (8 مليار دولار) منذ نفاذ الاتفاق !؟. نقلاً عن صحيفة الانتباهة 16/11/2009م