في 11 يونيو الجاري، انطلقت نهائيات كأس العالم لكرة القدم في جنوب أفريقيا، وستستمر الفعاليات الخاصة بهذه التظاهرة الرياضية الضخمة لمدة شهر. ويبدو أن جاكوب زوما، رئيس جنوب أفريقيا سيحقق مكاسب من خلال هذا "المونديال"، يمكن اعتبارها شخصية وسياسية، تفوق كثيراً أحاديث السياحة والمال والتفوق والخسائر الرياضية المألوفة. ومع ذلك فإن البدء بالبعد الاجتماعي في جنوب أفريقيا وفق مبادئ "الحقيقة والمصالحة" كفيل بأن يضيف إلى مكاسب "المونديال" الكثير. فجنوب أفريقيا ليست من بلاد كرة القدم، حيث لا تحظى اللعبة بشعبيتها المعروفة في بلدان أخرى، لأن "الرجبي" كانت لعبة البيض المفضلة، ويمنعون السود من دخول نواديها وملاعبها على مر عقود وفق نظام الفصل العنصري البائد. وكانت الطبقة البيضاء تستمتع بذلك حتى وهي تلقى المقاطعة لها في مختلف الرياضات وخاصة كرة القدم، إزاء الموقف الدولي منها بتأثير الإجماع الأفريقي! وفقط في بداية الثمانينيات بدأ قدر من الاختلاط بين البيض والسود، ولم يقبل بذلك جمهور البيض فتكون فريق السود وحدهم هزيلاً بدعم من طبقة وسطى صاعدة نسبياً. ومع بداية التسعينيات حدثت الترضية المشتركة، نجح الرئيس "مانديلا" و"مبيكي" في عقد "مونديال" "الرجبي" في جنوب أفريقيا 1995 بنجاح ملحوظ، فارضوا البيض. وقام الرئيس نفسه بفرض قوانين :تمكين السود" اقتصادياً واجتماعياً لدعم الطبقة الوسطى السوداء نصيرته الأساسية فقبل البيض ذلك على مضض. لكن ها هم الجميع يقبلون ويكادوا ينجحون في "مونديال 2010" لتنجح تجربة "أمة قوس قزح" كما تسمى. ولتصبح كرة القدم وطنية بأغلبية سوداء و"الرجبي" بأغلبية بيضاء لصالح "الاندماج الاجتماعي" الجاري تأسيسه. وسوف يكون مرور المونديال بأمان، أو بنجاح مكسباً كبيراً للرئيس "زوما" لأنه في ظل أجواء الاحتفاليات الغامرة يمرر عدة موضوعات ذات خطر على نظام الحكم بالتأكيد، وبعضها يريدها لصالحه على المدى القريب. يكفيه تمرير الفضائح العائلية التي تمس إحدى زوجاته الثلاث، وبخاصة مقولته إزائها إنها "أمور خاصة" لا صلة لها بمصالح البلاد، وليؤكد لعديد من المرات أنه رجل "الزولو" الشعبي التقليدي الذي يعيش تقاليده الخاصة ما دامت مؤسسات الحكم مستقرة! وهنا يدعمه جناح شباب قوي في الحزب معروف بالتطرف أصلاً، بل ويدعمه مانديلا الذي كان بصدد حضور المونديال ومباركته لولا ظرف خاص طارئ، تمثل في وفاة حفيدته في حادث سير. أما المسألة الكبرى التي تكاد تمر بدورها، بمهارة وزرائه أيضاً، فهي مسألة نظام تمليك الأراضي، والدعوات الصارخة التي كانت قد انطلقت أخيراً لتأميمها، على نحو ما تم في زيمبابوي. والواقع المتعلق بالأرض يكاد يحطم سمعة ومكانة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي كله في أية انتخابات قادمة. وقد وضعها أحد الباحثين مؤخراً في شكل مأساوي ليقول إن حكم التحرر والديمقراطية (يقصد المؤتمر) لم يستطع أن يوزع أكثر من ستة ملايين هكتار على المعدمين، من مجموع أراض زراعية تزيد على مائتي مليون هكتار معظمها في يد البيض. ورغم اقتراب السنين فإن الحكم لا يعد إلا بتوزيع 30 في المئة من تلك الأراضي حتى عام 2014! ثم يقوم الحكم بحملة مؤخراً لنفي أية فكرة عن "تأميم الأراضي"، لأنه كما يصرح البعض وجد "أراضي موزعة" غير مزروعة أصلاً من قبل من استلموها، وأنه سينزع أية أراض غير مزروعة وفق مبدأ "حرية البيع وحرية الشراء" مضافاً إليه مبدأ "تزرعها.. أو تتركها"! وهي مبادئ ذات وجهين للبيض والسود على السواء، فلا يسمح للبيض بملكية أراض لا يزرعونها، ولا يسمح للسود بالحصول على أرض لا يتفرغون لزراعتها.. وذلك كله وفق مبدأ اشتراكي يزعمه الرئيس "زوما" الآن وهو "الأرض لمن يفلحها". مكاسب المونديال إذن تعبر بالرئيس زوما عديداً من المآزق، فقد عبر بذلك آثار صيحات الوفود العائدة من فنزويلا ملاحة بالمقارنة حول تأميم "الأرض والمناجم" على نحو ما تثيره فنزويلا عن تأميم البترول، ويعبر "زوما" أزمته مع الحزب الشيوعي، شريكه في الحكم والمختلف حول سياسته المالية والعمالية، ويعبر أزمته مع الصين إزاء السخط العام على إغراق الأسواق بالبضاعة الصينية، وارتفاع نسبة البطالة، بل ويعبر أزمته مع الأميركيين الذين كانوا يريدون امتداد مشروعات "أفريكوم" العسكرية إلى الجنوب في حملتها للوجود العسكري في أنحاء القارة "لمواجهة الإرهاب" على نحو ما نجحت مؤخراً في تعبئة دول غرب أفريقيا لهذا الغرض بحشد إمكانيات الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا. والرئيس "زوما" يواجه في كل مكان مقارنة دائمة مع فترة سلفه الرئيس السابق "تابو مبيكي"، ولذا فقد انتهز ظروف شعبويته ليعلن مخاطر أمراض الإيدز، وشرور الجريمة، وذلك على عكس النهج الذي سلكه مبيكي، كون هذا الأخير لم يهتم كثيراً بتلك المخاطر، وبدأ "زوما" حملة صحية وأمنية استحقت التقدير، ويجذب في هذا الصدد عدداً من الرأسماليين السود لدعمه أمثال "سيكوسواني" و"موجابي" من منافسي مبيكي القدامى. بل ويتخذ موقفاً متصالحاً مع "موجابي" ويرمق إلى مساحة القبول تدريجياً على مستوى أفريقي وعالمي مما يحقق له بدوره شعبية، ويهدئ له الموقف المهدد بالتفجر تجاه مسألة الأرض. ويبقى السؤال: هل يغطي ضجيج المونديال لمدى بعيد على ضجيج المشكلات الداخلية؟ المصدر: الاتحاد 15/6/2010