عند الشدائد تخبو الأحقاد, إذا أحسنا قراءة الواقع, بعيدا عن تهويمات السياسة وثمل الشعارات. نحن ننتمي إلى وطن, مهما بلغت به التعاسة فهو موجود, كما يقول كاتبنا الكبير الطيب صالح, فلماذا نضيعه؟ الاتفاق على مبدأ تقرير المصير في بروتوكولات ميشاكوس واتفاقية نيفاشا, جزء من حزمة مبادئ, لإنهاء أطول حرب أهلية, وأفدحها خسائر بشرية في إفريقيا. طرح مبدأ تقرير المصير, واتفق عليه كصمام أمان لضمان تنفيذ الاتفاقية, مثل "أبواب الطوارئ في الطائرات كجزء من تصميمها, لا يتمنى أحد فتحها إلا اضطرارا وعند الضرورة القصوى"! بفضل اتفاقية السلام الشامل, تحقق استقرار نسبي في السودان, وفرضت تنازلات جوهرية, ساعدت على التقاط الأنفاس مجددا, في الطريق إلى تحولات ديموقراطية, وإن كانت في حدود الكفاف, وبالطبع لن تكون مجانية, خاصة للذين يقفون على السياج!. ورغم خشونة الممارسة وصلف القوة وغطرستها, إلا أن اتفاقية السلام, وضمان تنفيذها ومراقبتها من قوى المجتمع الدولي, خلق ممانعة إيجابية, نتج عنها العديد من المواقف المتوازنة لكبح غلواء الأجنحة المتخندقة في المربع الأول, والمنتشية بالوهن السياسي لأحزاب المدى التاريخي في الشمال, التي انحسر نفوذها وتضاءلت قدراتها على الفعل السياسي. فالسياسة والزعامة, "نتائج على أرض الواقع وليست مواريث مقدسة أو نيات في الصدور."! أطفأت اتفاقية نيفاشا الكثير من الحمم المتطايرة من فوهة بركان وطن, أشقاه أبناؤه بسراب الشعارات, لإخضاعه قسرا لرؤى أيديولوجيات, انقضت عليه من اليسار إلى اليمين في مراحل متعددة منذ استقلاله!. وتجسدت في تصعيد بعض المنابر لخيار الانفصال على أسس دينية وعرقية , برفعها شعار "يسألني الله يوم القيامة عن ديني وليس وطني"! وإذا كانت المنازلة, " تسيس الدين وتدين السياسة", فهناك اجتهادات أكثر نضجا وأقوم حجة, كما جاء في شرح الأستاذ فهمي هويدي للفتوى الشهيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية, عندما قال : "إن أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه مشاركة في أنواع من الإثم, أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم, ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة, ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة, وإن الدنيا تقوم مع العدل والكفر, ولا تقوم مع الظلم والإسلام. وإن العدل نظام كل شيء, فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت, وإن لم يكن لصاحبها من خلاق. ومتى لم تقم بعدل, لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة .. الكافر العادل أفضل من المؤمن الجائر, لأن الأول كفره عليه وعدله لنا, أما الثاني فإن إيمانه له بينما جوره علينا."! جيل الآباء المؤسسين, بغض النظر عن نتائج مشاريعهم الطموحة, كانوا أبعد نظرا وأكثر جرأة للتحليق في فضاءات أرحب. دولة الخليفة عبد الله التعايشي, امتدت حدودها إلى مساحات أكبر من حدودنا اليوم, غربا حتى قولو وشرقا حتى أقوردات, وشمالا حتى توشكي "مذكرات: د.عمر نور الدائم", السلطان على دينار, كان طموحة الانضمام إلى الخلافة الإسلامية العثمانية والتوجه نحو تركيا, الشريف يوسف الهندي حارب في صفوف الثورة العربية, مؤيدا لثورة الشريف حسين, شريف مكة, وإبطال اللواء الأبيض أول من قاتل دفاعا عن شعارات وحدة وادي النيل (انظر دراسة: تأصيل الهوية داخل فضاء الثقافة السودانية للأستاذ مجذوب العيدروس, مطبوعات مركز الدراسات السودانية 1998م), وسار على دربهم حزب الأشقاء, ثم طموحات الوحدة الثلاثية مع مصر وليبيا ثم الرباعية بإضافة سوريا, وكان في خاتمة المطاف شعار من نمولي إلى الإسكندرية, الذي بشر به الراحل الدكتور, جون قرنق! (انظر: جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد , قضايا الوحدة والهوية , ترجمة د.الواثق كمير 1998م). ومن المشاريع الرائدة والتي لم تجد عناية, وحظا وافيا من النشر, للرحيل المبكر لصاحبها الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد, وقد بذل جهدا مقدرا في دراسته التي صدرت قبل اتفاقية نيفاشا, واستصحب فيها بروتوكولات مشاكوس 2003م واتفاقية السلام من الداخل الموقعة في 21 أبريل 1997م. والجديد في دراسة الأستاذ محمد أبو القاسم أنه أضاف طريقا ثالثا لوحدة السودان, باعتبار خيار الوحدة وفقا لاتفاقية السلام الشامل الخيار الأول, والكونفدرالية بين دولتين خيارا ثانيا, فقد بنى أطروحته على رؤيته الإستراتيجية, لكونفدرالية القرن الإفريقي . وناقشته مطولا في مشروعه , بإيجابياته وسلبياته (ارتبطنا منذ الستينيات في هم وحدة القرن الإفريقي), ويقول الأستاذ أبو القاسم , مستعرضا مسار الوحدة السودانية: جرب الشمال والجنوب كافة أنواع الوحدة وأشكالها من المركزية منذ عام 1947م إلى عام 1972 م , حيث تم توقيع اتفاقية الحكم الذاتي الإقليمي والي الولائية في عهد الإنقاذ (اتفاقية نيفاشا وقعت 2005 م وتوفي محمد أبو القاسم 20 ديسمبر 2004). ولم يعد أمامنا سوى خيار وحدوي, أكثر جذبا هو الكونفدرالية الثلاثية, لتنطلق لآفاق أرحب بانضمام دول القرن الإفريقي, في كونفدرالية , شمالية وجنوبية وقرن إفريقية, تنهي النزاعات وتحقق الاستقرار لدول المنطقة. ويضيف أن الأمن القومي الإستراتيجي للسودان يمتد في عمقه من إريتريا إلى إثيوبيا وجيبوتي والصومال. ويوضح أن علاقة شمال السودان بجنوبه تكاد تتشابه مع علاقاته بدول القرن الإفريقي!, فالعلاقات بين الشمال والجنوب منذ عام 1874م, هي علاقات, فرضتها مصالح الخديوية المصرية في عهد إسماعيل باشا في مياه النيل وبحيراته الاستوائية, وكانت العلاقة إدارية وعلى فترات متقطعة منذ عام 1874 وإلى مؤتمر جوبا 1947 م. ثم دستورية فرضها البريطانيون, ولم تكن علاقة وطن واحد أو شعب واحد,! وحتى اتفاقية 21 أبريل 1997, السلام من الداخل, تمت مع القبائل الأضعف في الجنوب, قياسا إلى قبيلة الدينكا, فالطرف الدينكاوي الوحيد الذي وقع الاتفاق ثم تنصل عنه هو القائد كاربينو كوانين, فالقبائل التي وقعت الاتفاق تمثل قبائل التبوسا والشلك وقبائل الاستوائية والنوير. ويوضح أسباب فشل الاتفاقية والتوجه إلى التفاوض مع الحركة الشعبية حتى تم التوقيع على بروتوكولات مشاكوس 2003م , إلى العداءات التقليدية بين قبائل دينكا بور الرعوية والباري الزراعية والنزاعات بين التبوسا والدادينقا في منطقة شرق الاستوائية والتبوسا واللاتوكا والمورلي ودينكا بور, وصراعات مناطق الصيد بين الشلك والنوير, وهي صراعات من الصعب التحكم فيها أو تطويقها وإزالة مسبباتها بقرارات إدارية. وينبه الأستاذ أبو القاسم إلى التحدي الكبير الذي يواجهه الشمال والجنوب في منطقة أبيي, فإذا فشل الطرفان في المحافظة على الوشائج القوية التي تجمع بين الدينكا والمسيرية, فلا أمل في وحدة, مهما تعددت مسمياتها, ولائية أو فيدرالية أو حكم إقليمي ذاتي, فإنها لا محالة, تكريس لحالة من اللا حرب واللا سلم ! ويؤكد الأستاذ أبو القاسم في دراسته أن خيار الانفصال ليس في صالح الطرفين, وكذلك دول الجوار الإقليمي, فإلى جانب خسائر عائدات النفط بالنسبة للشمال, أيضا هنالك التكلفة العالية, إذا أقدم الجنوب على مد خط أنابيب جديدة عبر دول الجوار. ويعتقد الأستاذ محمد أبو القاسم أن احتواء النزاعات القبلية في الجنوب سيكون أفضل عبر السودان الموحد أو خيار كونفيدرالية القرن الإفريقي, لأن بعض هذه القبائل لها امتدادات في دول المنطقة, كما أن لهذه الدول علاقات وثيقة مع الدول الإفريقية المجاورة للجنوب, خاصة أوغندا وكينيا. ويضيف أن مصر ستنشط أكثر في استثمارات مشتركة مع السودان الموحد, لإحياء مشروع جونقلي الذي سيزود السودان ومصر معا بحوالي أربعة مليارات من الأمتار المائية المكعبة, ويعود المشروع بفوائد كبيرة للجنوب بتحويل مياه بحر الجبل وتجفيف المستنقعات وتأهيل المنطقة لأساليب الري الحديثة, مما يمكن من توطين ثلاثة أرباع مليون من قبائل الدينكا والشلك والنوير في مساحة تتسع لتشمل ثلاثة ملايين فدان.. وفي سياق آخر أشار الدكتور رشاد إبراهيم محجوب الخبير المصري في الدراسات الإستراتيجية, عبر جريدة الوفد المصرية بتاريخ 11 أغسطس عام 2002م إلى أخطار قد تهدد أمن مصر, إذا لم يستقر الجنوب, موضحا أن إقامة خزان مائي في جنوب السودان على مسافة 400 ميل جنوبالخرطوم, عند تقاطع نهر السوباط والنيل الأبيض, يستطيع حجز مياه النيل الأبيض المتجمعة في منطقة البحيرات العظمى, وسيكون فيه خير لمصر, إذا ما تم بصورة سليمة, أو قد يؤدي إلى خراب مصر إذا ما تم حجز كميات ضخمة من المياه, ثم إطلاقها دفعة واحدة, ففي هذه الحالة ستحدث المياه فيضانا ضخما يغرق مصر على ضفتي النيل ويهدد السد العالي!! من المستفيد والقادر على تخطيط وتنفيذ مثل هذا السيناريو الكارثي؟! المصدر: الشرق القطرية 26/7/2010