احتوت الوثيقة التي نشرها الجمهوريون لتكون بمثابة البرنامج الانتخابي للحزب في انتخابات نوفمبر التشريعية، على القليل للغاية من الأفكار بشأن السياسة الخارجية. وهو ما لا يعني بالضرورة أن السياسة الخارجية تراجعت على أولويات الحزب، وإنما يعني على الأرجح، إذا ما وضعت في سياق باقي الوثيقة، أن السياسة الخارجية الأميركية قد تشهد انجرافا نحو اليمين. فقد نشر الحزب الجمهوري الأميركي الأسبوع الماضي، وثيقة أطلق عليها اسم «عهد لأميركا»، احتوت على مجموعة من الوعود الانتخابية. والحقيقة أنه رغم أن الانتخابات التشريعية الأميركية عادة ما تكون انتخابات مغالية في محليتها، بمعنى أن تجري داخل كل دائرة وكل ولاية حسب قضاياها المحلية. فإن تلك ليست المرة الأولى التي يتم فيها الإعداد لانتخابات تشريعية، باستراتيجية عامة يحددها الحزب بشكل مركزي. فقد قام الجمهوريون من قبل باستخدام استراتيجية مماثلة في انتخابات 1994، وقدموا برنامجا عرف وقتها باسم «عقد مع أميركا». والحزب في أميركا لا يجد مصلحة في تبني استراتيجية مركزية، إلا إذا كان يجد أن الحزب المنافس يقدم على الانتخابات وهو يعاني ضعفا يمكن استثماره عبر التأكيد عليه في كل ولاية ودائرة انتخابية. والوثيقة التي أعلن عنها الجمهوريون قبل أيام، فيها أوجه شبه كثيرة مع وثيقة 1994، ليس فقط من حيث المضمون، وإنما من حيث السياق العام ذاته. فما أشبه الليلة بالبارحة. ففي 1994 كان في البيت الأبيض رئيس ديمقراطي كلينتون أمضى في موقعه عامين، ومعه أغلبية في الكونغرس من حزبه. ومع نهاية العامين كانت حالة الاستياء الشعبي قد وصلت للذروة، بينما شعبية الرئيس نفسه في أدنى مستوياتها. لكن من المفارقات ذات الدلالة، أن أحد أسباب ذلك التذمر الشعبي وقتها كان أن كلينتون الذي تعهد بإصدار قانون لإصلاح نظام الرعاية الصحية، عجز عن تنفيذ عهده بعد أن قتل الجمهوريون مشروعه في الكونغرس، بينما يعاني أوباما اليوم هجوما شرسا لأنه أصدر القانون ذاته! وقد انتهت انتخابات 1994 التشريعية بفوز كاسح للجمهوريين، الذين استولوا على مقاعد الأغلبية في المجلسين لأول مرة منذ 40 عاما. والحقيقة أن البديل الاقتصادي الذي يقدمه الجمهوريون في وثيقة «عهد لأميركا» ليس جديدا، فهو إعادة إنتاج للسياسات الاقتصادية التي قدمها بوش الابن، بل وسياسات النيو ليبرالية الاقتصادية التي تحكم أميركا منذ عقود. فالوثيقة التي تتحدث عن ارتفاع الدين العام وعجز الموازنة، تقدم الوصفة الجاهزة المتمثلة في الخفض الضريبي والحد من التدخل الحكومي، فهي صارت كروشتة الطبيب الخائب الذي يصف الدواء نفسه لأي مريض، بغض النظر عن مرضه. فهي نفسها الروشتة التي جاء بها بوش الابن للرئاسة، في وقت كان هناك فائض في الميزانية الفيدرالية والاقتصاد الأميركي في حالة جيدة. الوثيقة إذن، تنطوي على عدد من الأفكار التي تشي بمواجهات مع الرئيس إذا ما فاز الجمهوريون. فهي، فضلا عن الخفض الضريبي، تتعهد بإلغاء قانون الرعاية الصحية ووقف الإنفاق الفيدرالي. ولأن الكونغرس هو من يملك «محفظة» الولاياتالمتحدة الأميركية، فإن الجمهوريين قادرون على شل يد الرئيس عبر حرمانه من الاعتمادات اللازمة، سواء لمشروعات جديدة أو حتى لبرامج الرعاية الصحية. لكن الوثيقة أظهرت سخاء في ما يتعلق بالسياسة الخارجية والدفاعية، فهي تعهدت بتمويل فوري «دون أي تأخير» لاعتمادات الجيش الأميركي، وبالبدء في تمويل برنامج الدفاع الصاروخي الذي كان قد تراجع بوضوح في عهد أوباما. لكن ما جاء فيها من مواقف بشأن قضايا السياسة الخارجية محدود للغاية، فهي ركزت فقط على دعم الجيش، وأكدت على فرض عقوبات قاسية على إيران، ومواصلة «الحرب على الإرهاب»، وتعاملت مع قضية الهجرة باعتبارها قضية مرتبطة بتلك الحرب. أما ما دون ذلك فلم تتطرق له الوثيقة أصلا. لكن تراجع السياسة الخارجية في الوثيقة، لا يعني أن قضاياها ستشهد تراجعا على أولويات الجمهوريين إذا ما فازوا بالأغلبية في نوفمبر. وتلك وجهة شبه أخرى مع ما جرى في 1994. فالسياسة الخارجية لا تحتل أولوية على أجندة الناخب الأميركي في الانتخابات التشريعية عموماً، خصوصا في أوقات الأزمات الاقتصادية. لكن الكونغرس الذي انتخب عام 1994، مارس نشاطا واسعا في صنع السياسة الخارجية، وهو ما يتوقع أن يفعله الجمهوريون هذه المرة إذا ما تولوا الأغلبية. لكن الخطورة في الأمر هي أن نوعية الأفكار المتطرفة التي تدور اليوم في فلك الحزب الجمهوري حول السياسة الخارجية، من شأنها أن تشعل حرائق لا أول لها ولا آخر، إذا ما تبناها أعضاء في مواقع المسؤولية في المؤسسة التشريعية. ففكرة «الشريعة كعدو لأميركا»، التي كنت قد أشرت لها في مقال سابق، أطلقها نيوت غينغريتش رئيس مجلس النواب الجمهوري السابق من أحد مراكز الفكر المرتبطة بالحزب الجمهوري، ثم تلقفها مركز آخر يضم بين أعضائه رموزا خدمت في إدارات جمهورية سابقة، وراحت تناقشها بانتظام دوائر جمهورية ثالثة. وأفكار استخدام القوة الغاشمة وفرض الأجندة الإسرائيلية، تتردد بقوة في دوائر المحافظين الجدد وغيرها من دوائر الجمهوريين. لكن تلك الأفكار والرؤى إذا ما وضعت في سياق تعهدات الجمهوريين في الشأن الداخلي، تصبح أكثر خطورة. فأجندة الجمهوريين الداخلية معناها صدام حتمي وبالغ الشراسة مع الرئيس، وهذا هو بالضبط مصدر الخطر. ففي جو الصدام المحتدم من هذا النوع، يختار الرئيس المعارك التي يخوضها مع الكونغرس، لأنه لا يستطيع أن يخوض معركة بشأن كل قضية. وهنا، تكون السياسة الخارجية هي الضحية. فلأن الرئيس يعاد انتخابه أساسا وفق إنجازاته الداخلية، فإن الأسهل بالنسبة له هو التخلي عن خوض معارك تتعلق بالسياسة الخارجية، والتركيز على المعارك الداخلية الحيوية بالنسبة له. المصدر: البيان 29/9/2010