في عدد من اللقاءات الإعلامية المصرية والعربية التي شاركت فيها مؤخرا للتعليق على تأثير انتخابات الكونجرس على السياسة الخارجية الأميركية، فوجئت برؤى عبر عنها عدد من زملائي المشاركين مؤداها أن السياسة الخارجية هي ملعب الرئاسة والرئيس له فيها اليد العليا، بينما لا يستطيع فيها الكونجرس أن يفعل الكثير. ومصدر المفاجأة بالنسبة لي هو أنني كنت أتصور أن مثل تلك الأطروحات التي سادت لفترة طويلة في عالمنا العربي قد توارت بفعل خبرتنا نحن العرب أثناء حكم كلينتون حين لعب الكونجرس دورا بالغ الأهمية في صنع السياسة الخارجية الأميركية. والحقيقة أنني لا أعرف من أين أتى العرب بحكاية اليد العليا تلك للرئيس الأميركي في السياسة الخارجية إلا إذا كانت انعكاسا لثقافتنا السياسية التي يلعب فيها الحاكم الأوحد الدور الرئيسي. فوفق الدستور الأميركي يملك الكونجرس صلاحيات هائلة في مجال السياسة الخارجية تجعله قادرا إذا أراد على أن يشل يد الرئيس في السياسة الخارجية. فالكونجرس وحده هو الذي يعلن الحرب وهو الذي يملك «محفظة» الولاياتالمتحدة، أي هو الذي يقر الاعتمادات المالية، وهو الذي يصدق على المعاهدات. بل أكثر من ذلك، فالكونجرس هو صاحب الحق الدستوري في الرقابة، ومن ثم يمكنه أن يشل المؤسسة التنفيذية عبر إغراقها في سلسلة لا نهائية من التحقيقات وإجبار مسؤوليها على المثول أمامهم في جلسات الاستماع. وهذا الدور المحوري للكونجرس في السياسة الخارجية محكوم بشرط أساسي هو إرادة الكونجرس نفسه. فالمؤسسة التشريعية الأميركية تختار أحيانا ألا تفعل ذلك وتتخلى في أحيان أخرى عن صلاحياتها. ففي عهد بوش الابن، تخلى الكونجرس عن صلاحياته ومنح الرئيس شيكا على بياض في السياسة الخارجية والداخلية على السواء، ولم يستخدم حقه الرقابى فكانت النتيجة هي الكوارث التي تعانى منها أميركا حاليا. لكن تخلى الكونجرس عن صلاحياته لا يعنى مطلقا أنه لا يملكها ولا حتى أنه يملكها نظريا كما يحلو لبعض العرب أن يقولوا. فقد استطاع الكونجرس حين امتلك الإرادة أن يحقق ذلك على أرض الواقع. فحين تولى الجمهوريون الأغلبية في عهد كلينتون صنعوا الأجندة وفرضوها على البيت الأبيض. فهم مرروا قوانين رفضها كلينتون مثل قانون نقل السفارة الأميركية للقدس ورفضوا التصديق على معاهدات وقعها الرئيس مثل معاهدة الأسلحة الكيماوية ومنعوا تمويل الأممالمتحدة وأعادوا هيكلة وزارة الخارجية بهيئاتها المختلفة ضد رغبة الرئيس. ماذا إذن عن الكونجرس الذي انتخب لتوه؟ وهل نتوقع أن يفعل الجمهوريون مع أوباما ما فعلوه مع كلينتون؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في قراءة الواقع الحالي. فالموقف الآن يختلف عما كان عليه في عهد كلينتون. فالجمهوريون لا يسيطرون على المجلسين وانما على أحدهما فقط، أي مجلس النواب، بينما بقيت أغلبية مجلس الشيوخ في يد الديمقراطيين. وهو الأمر الذي يحد من قدرتهم على الفعل وان لن يؤثر على قدرتهم على عرقلة فعل الرئيس. بعبارة أخرى، فإن الشلل السياسي سيكون عنوان المرحلة القادمة في السياسة الداخلية والخارجية على السواء. ومما يدعم ذلك أن هذه الانتخابات أسفرت عن هزيمة عدد من الأعضاء الديمقراطيين اليمينيين والجمهوريين المعتدلين مما يعنى أن الكونجرس القادم سيكون أكثر استقطابا من الناحية الأيديولوجية. فالحزب الجمهوري سيكون أكثر يمينية والديمقراطي أكثر يسارية في المجلسين. لكن فوز الجمهوريين سيعنى أيضاً إنعاش الرقابة التشريعية حتى ولو لتحقيق أغراض حزبية وسياسية. وفى هذا الإطار لعل المسألة الإيرانية تكون مرشحة لجلسات استماع مطولة في هذا الشأن خاصة في ضوء التركيبة الجديدة للجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب. ولأن الجمهوريين جاءوا للحكم بتعهدات تتعلق بعجز الموازنة وخفض الإنفاق الفيدرالي فالأرجح أن يستخدموا الاعتمادات المالية كسلاح ضد الرئيس في السياسة الخارجية. فمن الوارد أن تتعرض الاعتمادات الموجهة للأمم المتحدة وبرامجها المختلفة فضلا عن اعتمادات المعونات الخارجية لصعوبات. أما الاعتمادات الموجهة للميزانية العسكرية وخصوصا الموجه منها للعراق وأفغانستان فالأرجح ألا يسعى الجمهوريون للمساس بها. فالحزب الجمهوري أكثر تأييدا للدور العسكري الأميركي، رغم انضمام عدد من الأعضاء الذين يميلون للانعزالية في السياسة الخارجية. لكن يظل تعريض حياة القوات الأميركية للخطر عبر تهديد التمويل الموجه لها هو آخر ما يريد أن يتهم به الجمهوريون والديمقراطيون بالمناسبة. أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فإن فوز الجمهوريين معناه تخفيض السقف السياسي الذي يتحرك فيه الرئيس، وهو السقف الذي كان منخفضا أصلا خصوصا في العام الأخير. فقد خرج من الكونجرس عدد من الديمقراطيين اليساريين المناصرين لإسرائيل الذين لم يكن عندهم مانع من الضغط عليها للتوصل لتسوية وفق حل الدولتين باعتبار ذلك مصلحة إسرائيلية أكثر منه مصلحة للفلسطينيين. وقد انضم للكونجرس بدلا من هؤلاء عدد لا بأس به من اليمين المسيحي مدعومين بحركة حفل الشاي. بعبارة أخرى، فإن فوز الجمهوريين نتج عنه تكريس ائتلاف التطرف الذي يدعم إسرائيل بلا شروط ويرفض الضغط عليها. لكن لأن الاستقطاب السياسي هو عنوان المرحلة القادمة في أميركا فإن الوارد أيضاً أن تحدث مقايضات بين الرئيس والكونجرس بشأن قضايا عدة، وهى مسألة معتادة في النظام الأميركي. فالرئيس يقايض الكونجرس عبر التنازل لهم عن قضية بعينها مقابل قضية أخرى تهمه. وقضايا السياسة الخارجية مرشحة للمقايضة. فهي أقل تكلفة للرئيس من قضايا السياسة الداخلية. ومن هنا فمن الوارد تماما أن يتنازل أوباما للجمهوريين عن قضايا خارجية لا تكلفه كثيرا مقابل تعاونهم معه في قضية داخلية تلعب دورا مهما في إعادة انتخابه. كاتبة مصرية المصدر: البيان 10/11/2010