ما كنت اعتقد إلى حين قريب أن بعض القياديين في الحركة الشعبية بهذه السذاجة وكذلك من لف حولهم أو يتحامى بهم من السياسيين الشماليين، إلى أن صدرت ردود أفعالهم العنيفة ضد الحقيقة الأكثر وضوحاً من الشمس في رابعة النهار، عندما قال الدكتور كمال عبيد وزير الإعلام بأن الجنسية السودانية وتبعاتها ستسقط تلقائياً عن الجنوبيين إذا تم الانفصال، وكنت اعتقد أن انفعال هؤلاء القادة سينفجر إذا طالب الدكتور عبيد بأية حقوق للمواطنة للشماليين في الجنوب المنفصل أو تعويضهم عن ممتلكاتهم وأعمالهم، التي قاموا بتنميتها منذ عهد الاستعمار أو السماح لهم بأن يختاروا بين العودة شمالاً أو البقاء في الجنوب، مع إعطائهم كامل حقوق المواطنة هناك، وقطعاً ما كان الدكتور سيعد هؤلاء المتخلفين بالاحتفاظ بجنسية مزدوجة، لأن هذا الحق إن وجد فهو خيار الحكومة، هناك والتي من حقها أن تنظم أوضاعها بما يتفق مع توجهاتها، وأيضاً ما ينسجم مع سياساتها مع الدول المجاورة لها، ومنها الدولة في الشمال، ذلك أن موضوع المواطنة ومنح الجنسية أو حجبها مناط بقوانين الدول ولا علاقة له بالقوانين الدولية أو الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. لا أود الخوض فيما تراشق به الكثيرون في هذا الموضوع فقط أورد بعض الحقائق من الواقع العالمي والإقليمي والجوار، فلم يحدثنا أحد بأن ألمانيا عندما انشقت إلى دولتين ظلت المواطنة أو الجنسية موحدة، وإنما انقسمت العاصمة إلى جزأين وانتصب (جدار برلين) يحكي للعالم جريمة الانفصال في حق الأمة الواحدة، وظل الجدار يتطاول ويقف شاهداً على صلف بعض البشر وهم يفرقون بين المواطنين والأسر والعائلة الواحدة، وظلت بوابات الجدار مغلقة والرصاص ينهمر على كل من يحاول الاقتراب منها، ومع هذا الواقع الأليم لم يسع أي طرف من الحكومتين إلى استجداء الآخر بطلب الجنسية الموحدة أو حقوق المواطنة، إلى أن ثار الشعب وأطاح بالجدار وتوحدت برلين مجدداً، كما أن التاريخ لم يحدثنا بأن انفصال اريتريا عن أثيوبيا كان ضامناً لأحد الطرفين بأن ينال مواطنوه جنسية الآخر أو أن تكون مزدوجة أو أي أحقيات، فيما يسميه قادة الحركة الشعبية الحريات الأربع التي لم يأتِ وقت تطبيقها بعد، وهي الحريات التي لم يصل السودان ومصر إليها إلا بعد عقود من الزمان، وإنفاذها واحدة وراء الأخرى بعد أن تستقيم جيداً ولا يدخل فيها حتى اليوم الجنسية الموحدة للمواطنة الكاملة. إذا كان استقلال اريتريا عن أثيوبيا قضية تحرر، فإن ما حدث في ألمانيا كان اختلاف ايدولوجيتين علمانية وديمقراطية، وهو واقع حالياً في السودان بين الجنوب الذي تحكمه حكومة علمانية والشمال الذي ارتضى حكم الشريعة الإسلامية، وهما المنهجان اللذان سيتجسدان حتماً في حال الانفصال التام، وإذا كان هذا الأمر جر الكثير من الخلافات والدولة موحدة فكيف سيكون الحال مستقبلاً إذا لم يحرص كل جانب على حماية معتقدات مواطنيه، وتشكل وثائق الجنسية أحد أهم الضوابط إذ كيف يعقل أن تسمح لشخص من (جوبا) المنفصلة أن يمارس حياته السياسية في منزله ب(الخرطوم) حتى يتآمر ضدك أو يشكل إحدى حلقات الطابور الخامس أو حتى يزاحم مواطنيك في سبل كسب العيش وغيرها من الخدمات، وهذا لا يعني قطعاً أن تكون المفاصلة شاملة فهناك مصالح مشتركة تربط بين الدول حتى في حالة الانفصال، وهناك قوانين دولية تنظم تحركات ووجود الأشخاص في الدول المجاورة، خاصة في حالة اللجوء السياسي أو الهروب من الكوارث أو المجاعات وغيرها من الأوضاع الإنسانية، وهذا ما نتوقعه من بعض المواطنين الجنوبيين بعد الانفصال. إن أكثر ما يثير هو تصريحات بعض قيادات المؤتمر الشعبي المؤيدة لاحتجاجات الجنوبيين بشأن ما قاله وزير الإعلام، ونذكر هنا أن الدكتور الترابي الخبير الدستوري كان الساعد الأيمن للدكتور السنهوري المصري المسمى (أبو الدساتير) عندما وقع الاختيار عليهما لوضع دستور وقوانين دول الخليج الحالية، والتي كانت تضمها منظومة واحدة باسم (الأمارات المتصالحة) المورثة من الاستعمار البريطاني، واستطاع الخبيران السوداني والمصري تقسيم هذه الأمارات إلى دولها الحالية، وشمل ذلك فصل المواطنة والجنسية وغيرها ولم يدعِ أي أحد الحق أو الاستثناء الذي يُطالب به اليوم حكام الجنوب بالمواطنة المزدوجة، وليس غريباً أن يساند المعارضون من أحزاب شمالية هؤلاء الحكّام بحسبان أن وجود عناصر الحركة الشعبية في الشمال يعضد مواقفهم في مواجهة الحكومة، وأنه ما لم يتم تقنين هذا الوجود فإن التعامل معهم بالقوانين الحامية للدولة سيؤدي إلى إضعاف نشاط الحركة والمعارضة معاً. في هذا المكان وقبل أشهر معدودة حذرنا من الجنسية المزدوجة وحتى الثلاثية في حال الانفصال، لأننا نعلم أن الآلاف من الجنوبيين وجميع القياديين في الحركة الشعبية حاصلون على جوازات سفر أمريكية وأوروبية أو من كوبا ودول أفريقية تتعاطف مع قضيتهم أو تحت مظلة اللجوء السياسي، وما دام وضح الآن من خلال الردود المتشنجة على تصريحات وزير الإعلام إصرار الحركة على المواطنة الصادرة وثائقها في الشمال، والإقامة والتمتع بالحريات الأربع حتى بعد الانفصال، وتضاف لها حريات العمل والحراك، فإن الأمر لا يتطلب فقط استحالة ذلك، ولكن لابد من ضوابط صارمة بحق الانفصاليين حتى لا يتسللوا إلى الشمال بتلك الجوازات الأجنبية وخاصة بحجة السياحة. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 30/9/2010م