غير أنه ما كان لنجاح إسرائيل في تثبيت قناع أخلاقي على وجهها أن يبلغ ما بلغه ويتواصل طول هذا الوقت إلا لأن من دفعوا أثمان نزعتها اللاأخلاقية عجزوا عن تقديم أنفسهم إلى المجتمع الدولي عموماً وإلى الغرب خصوصاً بوصفهم ضحايا هذه النزعة. لذلك سيكون أداء هؤلاء في الفترة المقبلة هو العامل الرئيسي الذي سيحدد إمكان نزع القناع الأخلاقي عن وجهها، بعد أن فتح مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان باباً في هذا الاتجاه ووفر فرصة ثمينة، لكنها من النوع الذي لا ينتج أثره بذاته وإنما من خلال حسن استثماره وتوظيفه. فما هي إلا خطوة أولى على طريق طويلة تلك التي اتخذها مجلس حقوق الإنسان في 16 أكتوبر الماضي عندما صادق على تقرير جولدستون الذي يتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب خلال عدوانها على قطاع غزة، ويطالب "الأطراف المعنية كافة، بما فيها أجهزة الأممالمتحدة، بضمان تطبيق التوصيات التي تضمنها". وكان تبني مجلس حقوق الإنسان هذا القرار مؤشراً على تدهور مكانة إسرائيل الدولية إلى حضيض غير مسبوق في تاريخها، بعد أن عجزت، ومعها الولاياتالمتحدة ودول أوروبية كبرى، عن إقناع معظم أعضاء هذا المجلس بأنها كانت في حال "دفاع عن النفس". وتكمن أهمية ذلك في أن فكرة دفاع الدولة عن نفسها وحماية مواطنيها في مواجهة تهديدات لأمنهم، كانت إحدى الدعائم الأساسية التي أقيم عليها قناع إسرائيل الأخلاقي. فقد أدت هذه الفكرة دور المادة المثَّبتة التي أبقت القناع الأخلاقي على وجه إسرائيل لفترة طويلة، رغم انتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي. لذلك أصبحت إسرائيل الآن في وضع يتيح شن هجوم حقوقي -قانوني -قضائي ضدها سعياً لمحاصرتها وإرغامها على مراجعة سياستها العدوانية بعد أن صار نزع قناعها الأخلاقي ممكناً للمرة الأولى. وهذا اختبار تاريخي للحركات والمنظمات الحقوقية العربية، ونظائرها العالمية التي تؤمن بأن للإنسان حقوقاً متساوية بغض النظر عن اسمه ووضعه ومكانه ومكانته. فلم تعد الطريق إلى مقر المحكمة الجنائية الدولية موصدة، وخصوصاً في حال التنسيق بين المنظمات الحقوقية الأهلية ودول العالم العربي والإسلامي ودول أخرى في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. وسيكون فألا حسناً إذا أمكن التوصل إلى توافق على أن تتحرك هذه المنظمات باتجاه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بالتوازي مع تحرك رسمي في الأممالمتحدة. وبدلا من تبديد وقت وجهد في مجلس الأمن والاصطدام ب "الفيتو" الأميركي وغيره، يمكن أن يكون التحرك الرسمي في الجمعية العامة مسانداً لتوجه المنظمات غير الرسمية صوب مدعي عام المحكمة الدولية. تستطيع الدول العربية تعبئة أغلبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل عقد جلسة لها في إطار الاتحاد من أجل السلام واتخاذ قرار تاريخي يطلب من المدعي العام "أوكامبو" تنفيذ التوصيات الواردة في تقرير جولدستون وفتح تحقيق مع المسؤولين عن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في حربها الأخيرة على قطاع غزة. وفي هذه الحالة، يستطيع ممثلو المنظمات غير الرسمية أن يتوجهوا إلى أوكامبو مسلحين بقرار الاتحاد من أجل السلام، قائلين له إن عشرات الدول ستقف وراءك إذا أديت واجبك الذي يمليه عليك ضميرك المهني، وليست دولة واحدة. وليكن بين من سيلتقونه لهذا الغرض بعض من سبق أن توجهوا إليه عقب الحرب على قطاع غزة وناشدوه فتح تحقيق فيها فأجابهم بما معناه أنه يريد مساندة بعض الدول الموقعة على هذا النظام والتي تتمتع بمكانة دولية وسجل طيب في مجال حقوق الإنسان. والأكيد أن هذا المعيار يتوفر في بعض الدول التي ستجتمع في إطار الاتحاد من أجل السلام إذا عُقد اجتماع الجمعية العامة ضمن هذه الصيغة. وبخلاف الاعتقاد الشائع عربياً، يمكن لعمل مدروس ومخطط جيداً إقناع أوكامبو بالتحرك أن يثمر. وعلى أية حال، ليس هناك سبيل آخر إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما لا يوجد ما يبرر تصنيف المدعي العام لهذه المحكمة معادياً للعرب أو متآمراً عليهم بسبب طلبه توقيف الرئيس البشير في قضية دارفور. فلم يكن أوكامبو هو الذي بادر بفتح التحقيق في هذه القضية، وإنما كان مجلس الأمن هو الذي أحالها على المحكمة. كما أن النشاط الهائل الذي قامت به حركات حقوقية أوروبية وأميركية، بمساندة بعض منظمات حقوق الإنسان العربية، لتعبئة المجتمع الدولي ضد الحكومة السودانية، خلق معطيات دفعته في الاتجاه الذي انتهى إلى تقديمه مذكرة اعتقال البشير. لكن الفرق بين قضية دارفور والحرب الإسرائيلية على القطاع هو نفسه الفرق بين السودان الذي لا سند له وإسرائيل التي تتمتع بمساندة غربية أتاحت لها الإفلات من العقاب لفترة طويلة. وهذا ما بدا أن أوكامبو يحسب له حسابه عندما قال لوفد الحقوقيين العرب والأوروبيين الذي التقاه في مارس الماضي، إن التحرك نحو فتح تحقيق في ممارسات الجيش الإسرائيلي في الحرب على غزة ليس ممكناً بدون مساندة دولية. ويعني ذلك أنه لم يكن واثقاً من جدوى فتح ملف الانتهاكات الإسرائيلية في تلك الحرب. وهذا يختلف كثيراً عن أن يكون غير مقتنع بوجود انتهاكات أو متفهم لما فعلته إسرائيل انحيازاً لها أو تعاطفاً معها. وقد نفتح للخيال باباً هنا، لكن بدون جموح أو انفلات، فنتصور أوكامبو وقد وجد في هذه القضية خير ختام لتاريخ مهني طويل، فيه ما يحق له أن يفخر به. فسجله القضائي في بلاده يشهد بنزاهة وشجاعة تكفيان لأن يدخل تاريخ القضاء الدولي بجدارة إذا استدعاهما في قضية جرائم الحرب الإسرائيلية قبيل مغادرة موقعه الراهن. ومن يراجع سجل أوكامبو قد يستخلص أنه ممن يحترمون التقاليد المهنية ويدركون أهمية حكم التاريخ وقيمة الإنجازات الكبرى. فإذا صح ذلك، يصبح ضرورياً بذل الجهد اللازم لإقناعه بالتحرك لفتح التحقيق الذي قد يضع إسرائيل في قفص الاتهام ويغير الأوضاع التي أتاحت لها الإفلات بجرائمها السابقة. وعندئذ قد "تكر السبحة" لأن جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم. غير أن هذا كله يستلزم عملا مضنياً من أجل تعبيد الطريق المؤدية إلى وضع إسرائيل للمرة الأولى في قفص العدالة الدولية.