بعد عقود أمضيتها وأنا أسعى جاهدا لشرح العالم العربي لبقية الأمريكيين وجدت نفسي أصطدم أحيانا كثيرة بالأساطير وأنصاف الحقائق نفسها التي ظلت، سنة بعد أخرى، تأبى إلا أن تتحكم في كل قدرة على صهر الطريقة التي يتم بها التفكير في قضايا المنطقة العربية. أسباب كثيرة دفعتني إلى تأليف كتابي الجديد: "أصوات عربية: ما يقولونه لنا ولماذا يهمنا". لقد سعيت خاصة في هذا الكتاب إلى التصدي مباشرة لهذه الأساطير. على عكس الكثير من الكتب والمقالات التي صدرت حتى الآن والتي تطرقت إلى المنطقة العربية فإن كتاب "أصوات عربية" لم يسع إلى إعادة سرد التاريخ أو تكرار تأويل التأريخ كما أنه لم يتضمن جملة من الروايات الشخصية. يمكن لمثل هذه المقاربة أن تكون مفيدة كما أن العديد من النماذج الممتازة أسهمت بشكل كبير في فهم منطقتنا العربية وقضاياها إلا أنها تظل كلها عرضة للأحكام الاعتباطية المغرضة التي تطلق جزافا - أو ما أسميه "العلم السيئ" - على غرار تلك الفئة من الكتاب، التي تميل إلى التركيز في ملاحظة أو حوار معين من أجل الوصول بعد ذلك إلى استنتاجات يشوبها الكثير من التعميم، تحضرني هنا على وجه الخصوص كتابات توماس فريدمان. لقد بدأت كتابي "أصوات عربية" بسرد جملة من المعطيات والحقائق المستمدة من استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة زغبي انترناشيونال عبر دول منطقة الشرق الأوسط على مدى عقد كامل من الزمن. استخدمت في كتابي أيضا بعض الارتسامات الشخصية من أجل إعطاء الروح للأرقام الجافة والمساهمة في سرد قصص أولئك العرب الذين يتعين علينا أن نفهم واقعهم على حقيقته. أنا أحب استطلاعات الرأي (ليس فقط لأن أخي جون زغبي يمارس هذه المهنة). إن استطلاعات الرأي تفتح نافذة حقيقية وتمكننا من سماع أصوات نادرا ما تسنح لنا الفرصة كي نسمعها. عندما نسأل 4000 مواطن عربي من المغرب الأقصى إلى دولة الإمارات العربية المتحدة ونطلب إليهم أن يعبروا لنا عن مواقفهم من الولاياتالمتحدةالأمريكية ونتلمس من خلال ذلك كله أهم القضايا السياسية التي تشغل بالهم، ونعرفهم أيضا مواقفهم من المرأة العربية في مواقع العمل أو نتعرف البرامج التلفزيونية التي يشاهدونها، عندما ننظم كل هذه المعلومات حسب الدولة والفئة العمرية والعامل الجندري والطبقة الاجتماعية، ثم نصغي إلى ما يقولونه فإننا نستطيع عندئذ أن نخترق حجاب الأسطورة ونتعلم في الوقت نفسه. إن التعلم في مثل هذه الحالة من الأهمية بمكان، ذلك أن فهمنا للمنطقة العربية وشعوبها قد ظل طويلا مشوبا بالصور النمطية والأساطير المشوهة. إن هذه الصور النمطية والأساطير المشوهة هي التي ظلت تطغى على تفكيرنا، بل تشكل سياساتنا في بعض الأحيان. في كتابي "أصوات عربية" أتطرق إلى كل أسطورة من هذه الأساطير ثم أضعها على محك المسلمات والمفاهيم الخاطئة التي قد تكون قد نتجت عنها، مستعينا في ذلك باستطلاعات الرأي وما تسفر عنه من نتائج ذات دلالة تبين لنا حقيقة التفكير العربي. هذه هي الأساطير الخمس التي تصديت لها في كتابي "أصوات عربية": 1 هل كل العرب من الطينة نفسها وهل يمكن أن نضعهم في "قالب واحد" (مثل القول إن كل العرب صفتهم هكذا أو هكذا)؟ عندما نقرأ تلك التعميمات الواسعة أو الصور الكاريكاتيرية التي رسمها عن العرب رفائيل باتاي في كتاب "العقل العربي" الذي يستخدم كتابا تدريبيا من قبل الجيش الأمريكي في العراق، وعندما نقرأ الكتاب الذي ألفه توماس فريدمان بعنوان: "قواعد العيش في الشرق الأوسط" فإن مثل هذه المؤلفات تؤثر في الطريقة التي ننظر بها إلى العرب وتعطي الانطباع أن العرب كلهم على هذه الصورة النمطية عينها، إلا أن استطلاعات الرأي التي أجريناها تعطي رؤية أخرى مغايرة. إننا نكتشف من خلال استطلاعات الرأي وجود مشهد ثري ومتنوع عبر العالم العربي يسقط الصور النمطية. هناك ثقافات فرعية وتواريخ فريدة تطرز نسيج الحياة، مما يجعل المصريين على سبيل المثال يختلفون عن السعوديين أو اللبنانيين فضلا عن الفوارق الأخرى بين الأجيال، على سبيل المثال، الشباب العربي (الذين يمثلون 60% من سكان المنطقة العربية) يخضع لتأثيرات العولمة وتيارات التغيير. إنهم يشتركون في القضايا نفسها التي تشغل بالهم وهم يطمحون أيضا إلى تحقيق أهداف تختلف عن أهداف آبائهم. إن الشباب العربي أكثر تقبلا للمساواة بين الجنسين كما أنهم أقل تشبثا بالتقاليد. 2 هل العرب متنوعون بحيث انهم لا يشكلون عالما قائما بذاته؟ هذا ما تريدنا مجلة إيكونوميست على سبيل المثال أن نعتقده. في عدد خاص صدر سنة 2007، وصف المحررون المنطقة العربية بأنها "مجرد شيء هلامي بل إنها لا تشكل أي شيء على الإطلاق". لقد اثبتت استطلاعات الرأي التي أجريناها العكس، فعبر المنطقة يعتز العرب بهويتهم العربية كما أنهم يعتبرون أنهم مرتبطون ببعضهم بعضا من خلال اللغة المشتركة (والتاريخ المشترك) والمشاكل السياسية التي تشغل بالهم، مع وجود أغلبية من كل الأجيال في كل دولة من الدول العربية تعبر عن تمسكها القوي بفلسطين وبمصير الشعب العراقي. 3 هل كل العرب غاضبون، يكرهوننا، يكرهون "قيمنا" و"أسلوبنا في العيش"؟ في استطلاع للرأي أجري مؤخرا، اتضح لنا أن مكونات عديدة من الشعب الأمريكي يحملون هذه الرؤية عن العرب، غير أن عملنا في العالم العربي يثبت صورة أخرى معاكسة. فالعرب مثل الشعب الأمريكي، وهم يحترمون نظامنا التعليمي مثلما يقدرون أيضا تطورنا العلمي كما أنهم يحبون قيمنا التي تشمل "الحرية والديمقراطية" على وجه الخصوص. وبالمقابل فإنهم لا يحبون السياسات التي نتعامل بها معهم، والتي تجعلهم يعتقدون أننا لا نحبهم. 4 هل يحرك التطرف الديني العرب؟ على غرار الكثيرين في الغرب، فإن العرب أيضا "أهل إيمان" بقيمهم المستمدة من التقاليد الدينية، كما أن نسبة حضور المصلين في المساجد عبر الشرق الأوسط تضاهي تقريبا نسبة حضور الناس هنا في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وعندما نسأل العرب عن البرامج التي يفضلون مشاهدتها، فإننا نخرج بقائمة تضم ذات البرامج التي يحبذ الأمريكيون مشاهدتها. في مصر والمغرب والمغرب الأقصى (أكبر الدول العربية التي شملتها استطلاعاتنا للرأي) نجد أن الأفلام والمسلسلات الدرامية هي التي تتصدر القائمة التي تتذيلها البرامج الدينية، وعندما نطلب إلى العرب ذكر أهم ما يشغل بالهم، فإن أهم ما يذكرون نوعية عملهم وأسرهم. يتبين لنا إذًا أنه على عكس المفهوم الخاطئ الذي يقول أصحابه ان "العرب يأوون إلى فراش النوم كل ليلة وهم يكرهون الولاياتالمتحدةالأمريكية ويصحون صباحا وهم يكرهون إسرائيل، ويمضون يومهم وهم يشاهدون الأخبار أو يستمعون إلى أئمة المساجد الذين يؤججون غضبهم"، فإن الواقع يقول إن "العرب يأوون إلى الفراش كل ليلة وهم يفكرون في عملهم ويصحون صباحا وهم يفكرون في أطفالهم ويقضون كل يوم وهم يفكرون في كيفية تحسين مستوى عيشهم". 5 هناك أسطورة تقول إن العرب يرفضون الإصلاح ولم يتغيروا ما لم يدفعهم الغرب للتغيير. لقد كانت هذه المزاعم تمثل واحدة من دعائم المحافظين الجدد في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش. استمدت هذه الأسطورة من كتابات برنارد لويس وقد مثلت أيضا إحدى الذرائع للحرب الأمريكية في العراق، أي فكرة تدمير "النظام القديم" من أجل التمهيد لميلاد "الشرق الأوسط الجديد". لقد أظهرت استطلاعات الرأي أن العرب يريدون الإصلاح غير أنهم يريدون الإصلاح الذي ينبع منهم. أما الأولويات المحلية الأخرى فهي تشمل الآتي: وظائف أفضل وإصلاح نظام الرعاية الصحية وتعزيز الفرص التعليمية وهي أولوية منطقية وعملية. تظهر النتائج التي أسفرت عنها استطلاعات الرأي التي أجريناها أن أغلب العرب لا يريدون أي تدخل في شئونهم الداخلية غير أنهم يرحبون بأي مساعدة على تطوير مجتمعاتهم وبناء قدراتهم من أجل توفير الخدمات وتحسين جودة الحياة. عندما ننظر إلى العالم العربي عن قرب ونستمع إلى العرب باهتمام أكبر فإننا ندرك أن هذه المنطقة وشعبها على عكس ما تتصوره هوليوود أو يتخيله أولئك السياسيون المتأدلجون. لا يمكن أن نحصر العرف في هذه الصور النمطية التي ظلت تؤثر في فهمنا وتشوه سياساتنا. علينا أن ندرك هذه الحقيقة ونسعى للتواصل والتعامل الإيجابي مع سكان المنطقة وهي مسألة بالغة الأهمية لعلاقتها بمصالحنا القومية. * رئيس المعهد العربي الأمريكي المصدرك اخبار الخليج 26/10/2010