عندما تستمع إلى الأسباب التى يسوقها الجنوبيين للمطالبة بالانفصال عن الشمال قد تعتقد للوهلة الأولى أنها لا تبدو كمبررات كافية للتشبث به، فاختلاف العرق والثقافة والعادات وحتى نمط الحياة ليس مبرراً لتفتت الدول فالتنوع الثقافى والعرقى يعد عنصراً من عناصر إثراء أى دولة وليس سبباً فى تقسيمها وإلا لتحولت دول العالم إلى عدة آلاف من الدويلات الصغيرة. ولكن من يبحث وراء تلك المبررات سيجد أنه يوجد ورائها أسبابا تاريخية وسياسية دفعت أهل الجنوب للسعي إلي فك ارتباط دام لقرون مع الشمال. فما هي تلك الدوافع وما هي القوي التي تشجع عليها ؟ وهل الرغبة في الانفصال جنوبية خالصة أم أن هناك قوي في الشمال تؤيد هذا الانفصال؟ وهل مسيحية الجنوب هي بالفعل أحد أهم العوامل الرئيسية التي تحتم انفصال الجنوب كما يدعي البعض في الغرب ؟ الأهرام حاول أن يجيب علي هذا التساؤل الشائك: أثناء زيارتي لمدينة بور قال لي الدكتور أكوت يار وزير الصحة السابق هناك استطيع أن أتفهم أن تكونوا أنتم المصريين أكثر الدعاة لوحدة السودان فهو لم يكن كيانا واحدا إلا علي أيدي الخديوي محمد علي وذلك حفاظا علي نصيب مصر من مياه النيل ولكننا في واقع الأمر نختلف عن الشمال في كل شيء في الأصول العرقية والدين وحتي في العادات والتقاليد والطباع, هناك سمة وحيدة تجمع بين أهل الشمال والجنوب وهي الطيبة الشديدة. فروق ظاهرية والحقيقة أن من ينظر إلي الفروق الظاهرية بين الشمال والجنوب ربما يجد أن كلمات الدكتور أكوت صحيحة إلي حد كبير, فهناك اختلاف في أشياء عديدة بداية من شكل المدن والعواصمفالخرطوم تشبه بعضا من العواصم العربية وجوبا تشبه المدن الأفريقية. وبالطبع فإن اللغة في الشمال هي العربية أما في الجنوب فقد اعتمدوا اللغة الإنجليزية كلغة رسمية. بالنسبة للإجازات الأسبوعية فهي يومي السبت والأحد وليست الجمعة مثل الشمال. أيضا هناك اختلاف في الزي للرجال والنساء ما بين الشمال والجنوب وكذلك في الملامح الشكلية فالجنوبيين فارعي الطول شديدو السمار وذوي ملامح بارزة تختلف عن الشماليين والذين تقترب ملاحهم من ملامح شعوب الجزيرة العربية. ثقافات مختلفة هناك اختلاف في الأعراف والثقافات وما يعتبر عاديا في الجنوب قد يعتبر مستغربا في الشمال هكذا تحدث كات بول( وهو طالب يدرس في كلية التربية) عن أسباب اعتقاده في ضرورة الانفصال حيث أكمل شارحا: في الشمال هناك كثير من الأمور التي تعتبر من المحظورات التي يعاقب عليها القانون فبيع الخمور ممنوع وكذلك ارتداء المرأة لملابس ضيقة أو كاشفة لبعض من جسدها ولكن في الجنوب الأمر يختلف, ف مثلا المريسة( نوع من الخمر المصنع محليا) لا غني عنها في حياتنا, وبالفعل فإن المريسة والعرقي من الأشياء الضرورية في الجنوب وأذكر أنني عندما زرت بعض المناطق النائية أثناء الحرب رأيت النساء تحرصن علي صنع المريسة من بقايا الذرة وذلك رغم ما يمرون به من ظروف مجاعة واقتتال, وعندما قمت بزيارتي الأخيرة لاحظت انتشار الحانات التي تبيعها في كل المدن بالإضافة إلي انتشار تناول أنواع مختلفة من الخمور والبيرة والتي تنتجها شركة سابملير والتي أصبح مصنعها في الجنوب واحدا من أكبر المصانع في أفريقيا أنتاجا لاستيعاب طلب السوق هناك. ولكن هذا لا يمنع أن احتساء الخمور موجود في الشمال وبكثرة وإن كان بشكل غير علني. أسباب غير منطقية السبب الرئيسي الذي يتحدث عنه البعض كفارق يدعو إلي الانفصال هو أن الجنوب مسيحي في حين أن الشمال مسلما بل و يطبق الشريعة الإسلامية أيضا وأذكر أن( حنفي) وهو موظف في وزارة التعاون الدولي قال لي نحن نختلف عن أكراد العراق أو أمازيغ الجزائر والمغرب والذين يختلفون في العرق ولكن هناك رابط يجمعهم مع غيرهم من سكان بلادهم وهو الدين وهو ما يسمح بفكرة وجود دولة واحدة تجمعهم ولكننا هنا نختلف في العرق والدين واللغة والعادات. خلافات غير جوهرية وإذا حاولنا تفنيد تلك المبررات سنجد أنها ليست بالقوة التي تجعل الانفصال حتمي فمثلا لو بدأنا باللغة وذلك كأحد أسباب الاختلاف فسنجد أنه بالرغم أن الإنجليزية هي اللغة الأساسية والتي يحرص المسئولين بشكل خاص علي استخدامها فإن واقع الأمر أن نسبة كبيرة من الجنوبيين يتحدثون عربي جوبا وهي اللغة التي يفهمها العامة ويمكن لمن هو من الشمال أن يفهمها وأن تداخلت معها كلمات من لغات بعض القبائل أيضا هناك سمات عديدة متشابه تجمع بينهم فكثير من عادات وتقاليد القبائل الجنوبية لها ما يشبهها في الشمالية مثل الاهتمام بالنسب العائلي وتقديم الأبقار للعروس مثلما كانت القبائل العربية تقدم الإبل كمهور كما أن هناك قبائل في الشمال يوجد لديها عادة تشليخ الوجه. الحقيقة في مسيحية الجنوب أما إذا تناولنا الديانة كأحد أهم الأسباب التي يستند عليها البعض لتدعيم فكرة الانفصال, فبحسب ما رأيت فإنه رغم انتشار الكنائس في الجنوب وزيادة عدد المسيحيين بشكل كبير خلال السنوات الماضية حتي أن مؤسسة جلوب للرأي العام سجلت من خلال دراسة ضخمة حول الأديان في أفريقيا قامت بها مؤخرا أن جنوب السودان من أكثر المناطق في القارة انتشارا للمسيحية. ولكن رغم ذلك لا يمكن اعتبار الجنوب السوداني مسيحيا صرفا فهناك حوالي25% يدينون بالإسلام وهناك نسبة كبيرة لا تزال وثنية بل أن هناك نسبة لا يستهان بها ممن قاموا بتغيير دياناتهم لم يتركوا معتقداتهم الوثنية القديمة بالفعل, تتبعه كنائس الجنوب مقره في الشمال. الأهم من ذلك أن الجنوبيين أنفسهم لا يقيمون وزنا للاختلاف الديني فالمعتاد أن تجد عائلة واحدة تضم المسلم والمسيحي والوثني دون أي غضاضة ولا يمثل الأمر أي مشكلة, وأذكر أنني التقيت بشاب يدعي شاكر وهو مسيحي ووالده مسلم ويشغل منصب مدير أوقاف ملكال أما جده وعمه فهما وثنيان والأمر لا يمثل مشكلة علي الإطلاق. وللتعرف أكثر علي هذا الأمر التقيت مع الطاهر بيور الأمين العام للمجلس الأعلي لمسلمي جنوب السودان وهو من قبيلة الدينكا والذي قال شارحا في الجنوب كل شخص يعبد ربه علي طريقته وفكرة تعدد الأديان لا تمثل لنا مشكلة. والإسلام في الجنوب قديم العهد وسبق دخول المبشرين بالمسيحية للجنوب في الوقت الذي وقف العالم الإسلامي يتفرج دون أن يحاول أن يهتم أو يدعم أحوال المسلمين في الجنوب والإحصاء الأخير المعروف لدينا كان في عام1983 وكان قد أعلنه مجلس الكنائس المشيخية هو أن تعداد المسيحيين في الجنوب17% والمسلمين18% والوثنيين65%. وبالقطع الصورة تغيرت الآن فالمسيحية تتزايد بشكل كبير بسبب وجود عدد ضخم من الكنائس والتي يصل عددها إلي المئات بخلاف الكنائس الصغيرة بالإضافة للإرساليات, فالدعم الغربي من مختلف دول العالم لتلك الكنائس كبير, حيث يتحدث البعض عن أن النسبة وصلت الآن لأكثر من50% من تعداد السكان في الجنوب. ولكن المدهش أن الإسلام أيضا يزداد في الجنوب رغم عدم وجود أي جهة ترعاه وفي العام الماضي ذكر في مؤتمر الكنائس العالمي الذي عقد بأوغندا أن عدد المسلمين التقريبي في الجنوب يتراوح ما بين ال25% و30%. ويضيف أمين المجلس الإسلامي قائلا لقد قمنا منذ عدة أشهر بعمل مؤتمر للمسلمين في الجنوب حضره أكثر من ألف ومائتين مسلم من الجنوب تحت رعاية الحكومة وافتتحه الرئيس سيلفا كير, ويعتبر هذا المجلس هو أول جهة جنوبية تعمل علي تنظيم شئون المسلمين في الجنوب. استفسرت عن إذا ما كان المسلمين يعانون من الاضطهاد كما يردد البعض فجاءتني الإجابة من موسي( وهو وزير سابق مسلم وأبن من أبناء ملك قبيلة الشلك) وهو كان برفقة أمين المجلس الإسلامي حيث قال لا نستطيع أن ننكر أن رجال الحركة الشعبية بعد ما عادوا من الغابة بعد الحرب حدثت بعض حالات الاضطهاد الناتجة عن المشاعر الغاضبة ضد النظام في الشمال ولكن الأمور اختلفت كثيرا الآن فالجنوب يسعي لأن يكون دولة علمانية تسمح لكل الأديان بالعيش معا, وهو ما شجع المسلمين علي ممارسة شعائرهم والآن يمكن أن تجدي بعض المساجد ممتلئة بالمصلين يوم الجمعة لدرجة تثير اندهاشك والحقيقة أنني أري أن الإسلام لديه مستقبل باهر بشرط أن يجد من يسانده ويدعمه, ونحن نتمني أن تقوم الدول الإسلامية بذلك بعدما عانينا من إهمال شديد وتجاهل منها. سألت عن أكثر الولايات من حيث تعداد المسلمين وعن إذا ما كان هناك كوادر من الجنوبيين تصلح للعمل في المساجد فأجاب طاهر بيور قائلا ولاية غرب بحر الغزال بها التعداد الأكبر من المسلمين, أما بالنسبة للكوادر المسلمة فالحقيقة أن الحسنة الوحيدة لحكومة الإنقاذ أنها قامت بتدريب وتأهيل بعض المسلمين الجنوبيين ولكننا رغم ذلك نطمح أن يفتح الأزهر بابه لتدريب وتعليم المسلمين الجنوبيين الراغبين في العمل في المساجد. رئيس أساقفة جوبا كان لابد من اللقاء مع أحد أبرز الرموز المسيحية في الجنوب وهو القس بولينو لوكادو رئيس الأساقفة في جوبا والذي تحدث عن المسيحية في الجنوب وقال دخلت المسيحية في الجنوب منذ حوالي مائة عام عن طريق قس إيطالي يدعي كومبوني جاء للسودان عن طريق مصر وعاش في السودان وقام بالتبشير فيه ودفن عند وفاته في الخرطوم. فسألته ولكننا كنا نتصور أن المسيحية انتشرت في الجنوب أثناء الوجود الإنجليزي فأجاب رئيس الأساقفة وقال الكنيسة الإنجليزية تتبع المذهب البروتستانتي ولأنه مذهب متشدد يريد الالتزام التام بما ورد في الإنجيل لذا لم يلاق إقبالا كبير من الجنوبيين بعكس المذهب الكاثوليكي والذي أستطاع أن يصبح هو مذهب الأغلبية وذلك لعدة أسباب بالطبع وفي مقدمتها تقديم الكثير من الدعم والمساعدات للجنوبيين من مدارس ومعاهد تعليمية وأخرها الجامعة الكاثوليكية والتي أنشأت مؤخرا في جوبا. قلت له اسمح لي يا سيدي أن أسألك عن أمر محير لي وهو يتعلق بالمسيحية في الجنوب فكما لاحظت فإن مسيحيين الشمال يلتزمون بقواعد الديانة المتعارف عليها ولكن في الجنوب نجد الرجل مسيحيا ولكنه متزوجا من عشرة سيدات وربما أكثر كما إنه يحتسي الخمور بكثرة والأغرب بالنسبة لي أنه يكون مسيحيا ثم تجده لا يزال يجل معتقدات قبيلته الوثنية فكيف تشرح لنا هذا الأمر؟ يجيب رئيس أساقفة جوبا قائلا: ربما هذا ما كنت أقصد به أن الكنيسة الكاثوليكية أكثر حرية فنحن لا نقول للشخص أنك لم تعد مسيحيا لأنك لم تلتزم حرفيا بكل شيء وإنما نتعامل بشكل أكثر تسامحا واضعين في الاعتبار أن الالتزام بالدين تماما لم يتمكن من القلوب بسبب ارتباطهم بشكل كبير بالثقافة القبلية مع انخفاض في معدلات التعليم. سألت القس بولينو عن عدد المسيحيين التقديري في السودان ككل ؟ فقال في تصوري أن هناك ما يقرب من عشرة مليون مسيحي في كل السودان أكثر من نصفهم يتبعون للكنيسة الكاثوليكية وبالمناسبة فإن كل الأساقفة في جنوب السودان وعددهم أثني عشر يتبعون الكنيسة الكاثوليكية في الخرطوم رغم أن عدد القساوسة في الشمال ثلاثة فقط ولكن البابا في الفاتيكان هو الذي يقرر لمن تكون المسئولية. قلت له ذلك بالطبع لأنكم دولة واحدة فلو حدث الانفصال فبالتأكيد سيتم اختيار بطريرك للجنوب وربما يتم اختيارك أنت أليس كذلك ؟ يجيب قائلا: ليس شرطا فيمكن أن يكون هناك بطريرك واحد لثلاثة دول مثلا وبالنسبة للسودان فالانفصال لا يعني انفصال الكنيسة في الجنوب عن الشمال لأن البابا هو من يختار ولا أعتقد أنه سيقوم بتغيير وضع الكنيسة الحالية لو حدث انفصال وعموما فإن مناقشة هذا الآمر سابق لأوانه. حتي لو حدث انفصال بين الشمال والجنوب سيظل الشعب السوداني واحدا لوجود روابط كثيرة بيننا أما بالنسبة للمسلمين في الجنوب فلا توجد عائلة في الجنوب لا تضم أشخاص مسلمين وأخريين مسيحيين حتي أنا عمي كان حاكما سابقا للخرطوم وهو مسلما ولا يشكل اختلاف الديانة أية مشكلة بيننا. وإذا كانت الاختلافات الدينية العرقية والثقافية يمكن التقريب بينها ولا تمثل عائقا حقيقيا يمنع التعايش بين الشمال والجنوب, فما هي إذن الدوافع الحقيقية التي جعلت من الانفصال رغبة شعبية في الجنوب؟ هذا ماسنتعرف عليه في الحلقة المقبلة عن أصل الصراع بين الشمال والجنوب. المصدر: الاهرام 10/11/2010