يتزايد بحث السودانيين الآن عن المزيد من شحنات الأمل، وجرعات التفاؤل، في أفق اجتياز جسر التحول المرتقب، بشهادة المجتمع الدولي كله في التاسع من يناير 2011، وهو موعد إجراء استفتائي تقرير مصير جنوب السودان ومنطقة أبيي. ولقد تظللت مساحات المشهد السياسي عبر الأشهر الأخيرة بسجالات عديدة، كان طابع البعض منها حادا للغاية، وهي السجالات السياسية حول كيفية التوافق على معالجة المشاكل الراهنة بين أطراف العمل السياسي الوطني، ونقصد هنا جميع القوى السياسية السودانية، بما في ذلك القوى التي بقيت في المعارضة منذ وصول الإنقاذ الى السلطة في عام 1989 حتى الآن. لكن الملاحظة الأساسية التي يستشفها المراقب للشأن السوداني الآن، في توقيت نهاية نوفمبر 2010، تخلص إلى تأكيد إمكانيات العيش المشترك المسالم والمتسامح بين الشماليين والجنوبيين في حالتي الوحدة أوالانفصال. وإن الرؤية العقلانية الهادئة تقول إنه لا يجب مطلقا أن تيأس الساحة السياسية بالبلاد من إمكانية فوز خيار الوحدة برغم كل ما اعترى علاقات ساسة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية من تعكير مؤخرا، وسط التوجس من نتائج الاستفتاء المرتقب الذي سيرسم منعطفا حاسما للسودان كله، فإما استمرت الوحدة أو وقع الانفصال. يستشعر المراقب بأن التمعن في قضية تقرير المصير كالتزام تضمنته اتفاقية السلام السودانية الموقعة بين المؤتمر الوطني والحركة في يناير 2005 بالعاصمة الكينية نيروبي، يتخذ حاليا مسار التفكير بواقعية في الاحتمالين معا. وهذا الأمر تختصره تصريحات قياديين بالمؤتمر والحركة بأنه لا عودة للحرب بينهما مهما تكن نتيجة الاستفتاء. إن النضج في العمل السياسي يتوفرعبر قراءة تجارب واسعة متعددة حدثت عبر انحاء العالم كله في اطار تشكل الدول في عصرنا الراهن. ومن هذا المنطلق، يتجدد تساؤل خاص طرح كثيرا على الحركة الشعبية تحديدا وهو التساؤل حول ما الذي أعدته الحركة سياسيا لتتحول من حركة تحمل السلاح وتسمي نفسها حركة ثورية الى حزب سياسي مدني يعمل على معالجة المشاكل بالورقة والقلم في اجواء يرتدي فيها السياسيون الملابس المدنية كبديل للزي العسكري القديم الذي طبع مرحلة الحرب الاهلية في جنوب السودان. ان نتيجة الاستفتاء وحدة او انفصالا اذا افضى اليها استفتاء حر ونزيه ليست هي الامر الاكثر اهمية، انما ذلك الأمر يتمثل بنظرنا في كيفية نشوء واقع سياسي قائم على المصداقية ويستند على الاخلاق التي تضع مصلحة المواطن شمالا او جنوبا في حدقات العين وفي القلب. إن تجنب اي احتمالات لعودة الحرب او عودة العنف في ربوع السودان يتطلب نهجا سياسيا حكيما يشارك فيه الجميع.. ويجب ان لا تغتر قيادات الحركة بما نالته من حظوة سياسية على مدى الاعوام التي اعقبت توقيع اتفاقية السلام في عام 2005، فالجلوس على كراسي المسؤولية ليس هو الهدف وانما الهدف يتجسد في خدمة المواطن. إننا نشهد الآن نزوحا غريبا استباقيا هو موسم هجرة جديدة الى الجنوب وسط تردد إشاعات هنا وهناك باحتمال عودة الاقتتال بين الشمال والجنوب.. لذلك فإن الحاجة تتأكد الآن لبناء ادوار ايجابية لمنظمات المجتمع المدني في السودان كله شمالا وجنوبا للحد من مخاوف مرحلة الاستفتاء، فيجب بث الوعي في أوساط المجتمعات المحلية بأنه لابد من احترام نتيجة الاستفتاء اذا توفرت له بصدق صفة الشفافية والنزاهة والبعد عن استخدام اي اساليب للضغط على ابن الجنوب قبل تقدمه صوب (صندوق الاقتراع) ليقول كلمته حول الخيار الآتي للإقليم الجنوبي. وبشكل عام فإننا نقول إنه لا بد من الحرص على توفير اجواء ايجابية بطول السودان وعرضه في فترة الاستفتاء الذي يعد مسؤولية وطنية كبيرة لا مجال فيها للحسابات الضيقة. لهذا نجدد الدعوة للفرقاء السياسيين في السودان للاضطلاع بالمسؤولية الكبيرة تجاه حراك الواقع السياسي الراهن. ونرى بأنه من الضروري ان تحرص كل الاطراف على الهدف الكبير متمثلا في هدف الوفاق الوطني الحقيقي.. ذلك الوفاق الذي لا تحركه مطامع السلطة أو الجاه وإنما تصنعه الرؤية الوطنية الصافية عن السودان في تشكل احوال اهله سياسة واقتصادا واجتماعا وثقافة عبر كل الاعوام التي مضت وترقبا لاعوام أجمل سوف تأتي.. ونضيف القول إنه بدون تنازلات سياسية كثيرة من هذا الطرف وذاك فإن دولاب العمل السياسي الوطني لا يمكنه التحرك خطوة واحدة الى الأمام. ونشير - أيضا - الى اهمية ابتكار اطروحات العمل السياسي التوافقي البعيدة عن تفصيل (أثواب الحلول السياسية) على أحزاب او تنظيمات بعينها.. ففي ظل الأخطار والتحديات غير المسبوقة التي يعيشها السودان بكل أقاليمه الآن فلا مجال لتقديم مصلحة اي حزب على مصلحة الوطن. إن اختبار إعادة بناء الثقة بين الفرقاء السودانيين في المرحلة الحالية المحفوفة بالتحديات والمخاطر يعد أمرا ضروريا.. فهل تنجح القوى السياسية السودانية في اجتياز هذا الاختبار الصعب بنجاح ؟.. هذا ما نأمله بصدق. المصدر: الوطن القطرية 28/11/2010