مع اقتراب الاستفتاء على مصير الجنوب، بدأت المعارضة الشمالية تنشط باتجاه أن تجد لها مساحة في الساحة السياسية هناك، وهذا قطعاً لممارسة دورها المناهض للحكومة في الشمال في محاولاتها التي لا تفتر للوصول إلى السلطة، مثال ذلك إعلان الدكتور الترابي، بأن حزبه المؤتمر الشعبي سيقوم بتطوير مذكرة التفاهم مع الحركة الشعبية عام (2008م) بجنيف وذلك لاستيعاب مرحلة ما بعد الاستفتاء (طبعاً الانفصال)، وهذا لا يعني فقط الاعتراف بالدولة الجديدة، رغم إعلانها الصريح بأنها ستسعى لتحرير كل السودان وإقامة العلمانية، وربما أبعد من ذلك بمشاركة الشعبي في حكومة قومية تشارك فيها كل الأحزاب الجنوبية والأحزاب الشمالية التي سيسمح بأن تكون لها فروع، والدعوة موجه أيضاً للمؤتمر الوطني، وقطعاً سيكون هناك تمثيل للمؤتمر الشعبي المتحالف مع الحركة الشعبية، والذي قال عرمان إن لديه فرعاً في جنوب السودان بقيادة عبدالله دينق نائب الرئيس، الذي شارك في الحوار (الجنوبي- الجنوبي) بجوبا، وبهذا يبدو أن هناك تنسيقاً بين المؤتمر الشعبي والحركة الشعبية في الكثير من القضايا، وربما خارج تحالف أحزاب المعارضة الحالي التي لبعضها تحفظات في القضايا التي أثارها التحالف، وخاصة من الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، الذي يعارض التسليم للحركة الشعبية في مسائل مبدئية، منها عدم مجاراتها في موقفها من الشريعة الإسلامية. ولكن وسط هذا التفاؤل من عرمان والترابي بتشكيل حكومة قومية في الجنوب بعد الانفصال، فإن حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان (التغيير الديمقراطي) بزعامة الدكتور لام أكول، يشكك حتى في وعد الحركة الشعبية بقيادة سلفاكير بقيام حكومة انتقالية في الجنوب بعد الاستفتاء، كما قررها مؤتمر الحوار (الجنوبي - الجنوبي)، وقال الدكتور بيتر أدوك الناطق باسم حركة التغيير ل(الوفاق) إن التراجع عن هذا القرار سيفتح أبواب الجحيم على حكومة الجنوب، ويساعد في ذلك حركات التمرد التي بدأت تظهر في الجيش الشعبي والتباين القبلي في تركيبة هذا الجيش، ولكن الدكتور لوكا بيونق وزير مجلس الوزراء حاول التخفيف من هذا الأمر وصرّح ل(الصحافة) بأن سقوط بعض الضحايا وارد بعد إعلان الانفصال، وأرجع ذلك إلى الحماس الشديد الذي سيُصاحب إعلان النتيجة في الجنوب، وأضاف أن هذا يمثل تحدياً حقيقياً لحكومة الجنوب لأن متطرفين سيحاولون التعبير عن حماسهم بإطلاق النار ووسائل العنف الأخرى، وفي هذا المنحى أعاد السفير رحمة الله محمد عثمان وكيل وزارة الخارجية بأن توجيهات الرئيس عمر البشير بحماية الجنوبيين ومصالحهم يعد أمراً نهائياً وقاطعاً وغير قابل لإعادة النظر، وذلك خلال الاستفتاء وما بعده، وأضاف لسفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالخرطوم أن جميع أجهزة الدولة ملتزمة بهذا بتوجيه الرئيس وتحقيق الاستقرار والسلام خلال فترة الاستفتاء، والذي وصفه بأنه سيكون سليماً وآمناً. وما ذكره السفير رحمة الله يتسق تماماً مع ما صرّح به ميخائيل مارجيلوف رئيس لجنة الشؤون الدولية بالمجلس الفيدرالي الروسي، بأن السودان يتميّز بثقافة سياسية عالية، وأن هذا سيساعد في تفادي أسوأ السيناريوهات بعد إعلان نتائج الاستفتاء، وأضاف في مؤتمر صحفي بموسكو أنه لن يتكرر في السودان ما حدث في ساحل العاج منذ أسابيع عندما لقي (170) شخصاً مصرعهم بعد الانتخابات الرئاسية. ومن الواضح أن الحركة بدأت حِدتها تضعف وموقفها يلين وتطالب بالحماية في الشمال، بدلاً من أصوات صقورها إلى حين قريب، عندما هددوا بالويل والثبور بعد الانفصال بحسبانهم مواطنين في الشمال لهم كل الحقوق، ومنها اجتهاداتهم لتحرير كل السودان وتحويله إلى دولة جديدة وعلمانية واحتلال أبيي، فقد طالب الوزير "لوكا" الحكومة الاتحادية بأن تبعث برسالة قوية إلى أئمة المساجد في الشمال لإقناع الشماليين بالتعامل مع نتيجة الاستفتاء بهدوء إذا كانت انفصالاً، وأن تضع سلطات الأمن كافة التدابير والاحتياجات لأي ردود فعل سالبة وخاصة في المناطق الحدودية، وطالب لوكا بأكثر من ذلك، بأن يقوم الرئيس البشير ونائبه الأول سلفاكير بزيارات متبادلة بين الخرطوموجوبا قبل الاستفتاء لبث رسائل قوية للحد من سلبيات الحماس في الجنوب والإحباطات والغضب في الشمال في حال الانفصال. إن الحكومة الاتحادية تنسج من زمن طويل على هذا المنوال، وقد أكد رئيسها في مهرجان الجزيرة بعيد الشهيد "الثلاثاء" بأنه سيكون أول من يعترف بدولة الجنوب إذا انفصلت، وذهب إلى أبعد من ذلك بأن حكومة ستدعم دولة الجنوب أمنياً وتنموياً وتقدم كل الضمانات لاستقرارها وتبادل المنافع والمصالح معها. وفي هذا لابد من الإشارة إلى الموقف الجديد والمتوازن للأمين العام للحركة الشعبية "باقان" عندما قال في مؤتمر صحفي "الثلاثاء" إن وجود حكومتين مستقرتين في الشمال والجنوب يسهم في صنع السلام والاستقرار، ودعا إلى فتح الحدود بين الشمال والجنوب بعد الانفصال وتسهيل حركة المواطنين وخاصة الرعاة، وتأسيس علاقة ود وسلام وأمن متبادل وتعاون في كافة المجالات وذلك خدمة للشعب في الشمال والجنوب. إن هذه التطمينات من كل الجهات وتلك الداعية إلى احترام نتيجة تقرير مصير الجنوب، تترتب عليها مستحقات كثيرة من حكومة الجنوب لإثبات جديتها، وفي مقدمتها أن تنفض يدها تماماً من الحركات المسلحة بدارفور الذين لجأوا إلى الجنوب للانطلاق منه في عملياتهم العسكرية بعد الانفصال، وأن تتخلى الحركة الشعبية عن موقفها السالب تجاه قضية أبيي ومحاولاتها المستمرة لشحن هذه المنطقة الحساسة بالخلافات وعسكرتها وإعادة رياح الحرب التي بددتها اتفاقية السلام، وأيضاً أن تقدم حكومة جوبا الحماية الكافية للمواطنين الشماليين وخاصة التجّار المنتشرين في كل مدن وقرى الجنوب بعد الانفصال، وبذات القدر من الحماية التي طالب بها الدكتور "لوكا" للجنوبيين في الشمال، وبعد هذا كله يمكننا الحديث عن انفصال جاذب مجدداً إلى الوحدة إذا أخفقنا جميعاً وبدون استثناء منذ الاستقلال أن نرسي قواعد الوحدة الجاذبة. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 30/12/2010م