لا أعتقد أننا كنا في حاجة لشهادة من الرئيس (أوباما)، بأن السودان كان مصدر إلهام للعالم من خلال مشاهدته لمجريات الاستفتاء على مصير الجنوب، كما أننا لسنا في حاجة لأن يدعونا للهدوء بعد أن بدأت (كما قال) تلوح في الأفق بوادر انفصال السودان، ولكننا قطعاً نرحّب بما قاله الرئيس الأمريكي بأن الشعب السوداني أظهر للعالم بأنه سيكون له مستقبل مزدهر يعمه السلام بعد التطبيق الشامل لاتفاقية نيفاشا، ورغم إنه خص الجنوب بأنه سيكون له (مستقبل أحسن)، فإننا نقبل تهنئته للحكومة السودانية وحكومة الجنوب والشعب السوداني قاطبة بهذا الإنجاز. وفي تفصيل ما ورد أعلاه نبدأ بالشهادة التي بذلها أوباما، وتؤكد أن أمريكا ومن التقارير الواردة من الخرطوم أو جوبا تحديداً من بعثاتها، كانت تشير إلى احتمالات سالبة تهدد الاستفتاء، أو تأجيله أو عدم اعتراف الحكومة في الشمال بنتيجته، وأيضاً حدوث مصادمات أو ظهور أسلحة تطيح بالعملية كلها، وتعيد البلاد إلى مربع الحرب، ولم تخفِ الإدارة الأمريكية من خلال تسريبات صحفية وتحديداً (واشنطن بوست) المقربة من الحكومة هناك، بأن تدخل واشنطن عسكرياً وارد في هذه الحالة. أما الشق الثاني الخاص بدعوة أوباما للسودانيين إلى الهدوء عند إعلان انفصال الجنوب، فقد تجاوزها الشعب السوداني بعد أن أظهرت النتائج الأولية لفرز الأصوات أن الانفصال أصبح راجحاً وبوتائر عالية، ومع ذلك لم تحدث أية واقعة أو بادرة تخل بذلك الهدوء أو تقلل من مظاهر السلام الاجتماعي السائد في الشارع السوداني، ولم يتم تسجيل أية حادثة تتطلب تدخل السلطات الأمنية حتى على المستوى الفردي، وبهذا يكون الشعب السوداني قد اجتاز وبنجاح الظرف الدقيق الذي يمر بالبلاد، والذي أشفق منه العالم وحبست الشعوب أنفاسها خوفاً من انفجار أو حوادث كارثية تصيب السودان، كما كان واضحاً أن الحكومة السودانية وفّرت جميع الأسباب بأن يدلي المواطنون الجنوبيون في الشمال بأصواتهم بحرية تامة، وأنها لم تتدخل قيد أنملة في إجراءات المفوضية القومية للاستفتاء، وانحازت بالكامل إلى واحدة من أهم الوسائل في مثل هذا الاقتراع، بأن تركت لمئات المراقبين من كل أنحاء العالم ومنظماته الحرية الكاملة في تحركاتهم دون أدنى مضايقة، ولهذا لم يشكو أحد أو يتظلم، وساعدهم الهدوء في الشارع السوداني للقيام بعملهم، وإذا كان الأمر غير ذلك لما تمكن هؤلاء المراقبون من تغطية العملية التي وصفوها بأنها كانت سلسة وشفافة. ونصل إلى الجزء الثالث والأهم من إيضاح (أوباما) والخاص بالمستقبل الزاهر لسودان يعمه السلام، فإذا صدقت رؤية الرئيس الأمريكي ولا نقول نواياه، فإننا نتطلع إلى خارطة سياسية جديدة من إدارته، تختفي منها كل العدائيات السابقة والتهديدات المتواصلة والاتهامات الزائفة، وإن كان (أوباما) مازال على سياسة الكيل بمعيارين عندما تمنى للجنوب (مستقبل آمن)، فإننا ننتظر ونأمل في تفعيل العلاقات بين الخرطوموواشنطن بالتعاون بينهما، وذلك من خلال تنفيذ (التفاهمات) التي توصل لها فريق الإدارة الأمريكية الذي أدار في الخرطوم حواراً مع مجموعة برئاسة علي أحمد كرتي وزير الخارجية هذا الأسبوع، حيث انتقل الحوار من عروض الفريق الأمريكي بإرسال تأشيرات للطلاب السودانيين وإرسال الفرق الرياضية والثقافية والفنية، إلى التجاوب مع مطالب المفاوض السوداني بمعالجة الديون ورفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وألا يكون هذا متصلاً بنهاية قضية دارفور، وألا يتجاوز السقف الزمني لتحقيق هذه المطالب نهاية الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام 9/7/2011م مع اعتراف الجانبين بأن رفع العقوبات الاقتصادية يأخذ وقتاً طويلاً ويحتاج إلى شفافية وحوار عميق، ولكن هناك اطمئنان من الجانب السوداني عما صدر من المبعوث الأمريكي إلى السودان (غرايشون)، بأن وقت الأقوال قد انتهى بين السودان وأمريكا وحل وقت الأفعال، وأن الرئيس الأمريكي يملك دستورياً الحق في إلغاء العقوبات ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ونحن ندخل مع العالم مرحلة جديدة بعد انفصال الجنوب، علينا أن نتعامل مع أمريكا بأجندة واضحة ومحددة، وأن نوقف اللف مع حكوماتها المتعاقبة التي تأخذنا معها أينما تدور مصالحها، خاصة وأننا دولة خارجة لتوها من حرب ضروس امتدت لأكثر من نصف قرن وتحتاج إلى ترتيب أوضاعها وبناء مقوماتها وتوظيف ثرواتها للارتقاء بمواطنيها، ومن هنا فإن المفاوض السوداني لا بدّ له في مثل هذا الحوار أن ينفذ إلى الجوهر، وألا يلهث وراء القشور، مثل تلك التي طرحها الفريق الأمريكي على طاولة المفاوضات في الخارجية هذا الأسبوع، بتبادل زيارات الفرق الرياضية والراقصة والموسيقية، فقد مررنا بهذه الزيارات في ستينيات القرن الماضي، عندما كان مواطنو العاصمة السودانية في كل أنحاء المدينة وأطرافها تصلهم أصوات ملك البوق الأمريكي (لوي ارمسترونج) عندما ينكفئ وهو في المسرح القومي بأم درمان على تلك الآلة الموسيقية وينفخ فيها، كما اندهشنا مع فرقة الجليد الأمريكية بعد أن تمت تغطية خشبة ذلك المسرح بكاملها وحتى مقاعد المتفرجين الأمامية بالثلج الناصع البياض والإضاءة الزاهية، ولكن مع الفجر تبددت صيحات البوق في الهواء وذابت ألواح الجليد مع بزوغ شمس الصباح، وانطلقت الراقصات في السيارات الفارهة، ولم نجنِ سوى السهر وضياع المال وعادت إلى الذاكرة المتعبة مشاكل الرغيف وحليب الأطفال ووقود السيارات وغيرها من قضايا الوطن الشائكة والمزمنة، وفي سرعة متناهية تم بعد ذلك تمرير قبول المعونة الأمريكية التي لم تقدم للبلاد سوى البضاعة الأمريكية الرخيصة، ولهذا لا نرغب في أن يتجرع هذا الجيل مرّة أخرى تلك الثقافات الأمريكية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. نقلاً عن صحيفة الرائد 20/1/2011م