مواصلة لمجهوداته في القاء الضوء على القضايا التي تهم قطاعات المجتمع المختلفة نظم مركز التنوير المعرفي مساء الأربعاء المنصرم 28/5/2008 بمقره بالخرطوم ندوة بعنوان (ظاهرة الغلو في العصر الحديث .. الصفات، الأسباب، العلاج)، قدمها د. يوسف الكودة بحضور عدد من المهتمين. وبدأ د. الكودة الندوة معرفا بالظاهرة من حيث مقياس مفهوم العامة لكلمة غلو بقوله: حقيقة أن تحديد مفهوم كلمة "غلو" يحتاج إلى مقياس دقيق وميزان سليم لا بخس فيه ولا شطط، إذ لا يصلح عرف الناس أن يكون مقياسا لأن أعراف الناس متفاوتة وبيئاتهم متباينة وتربيتهم مختلفة. فمنهم الظالم لنفسه الغارق في شهواته الذي يعتبر إعفاء اللحية والزي الإسلامي "الحجاب" نوع من التشدد، ومنهم من يعتبر تحذير الناس من ولاء اليهود والنصارى والشيوعيين تعصبا وفتنة طائفية ومنهم من يعتبر الدعوة إلى الجهاد تطرفا أو الدعوة إلى تطبيق الشريعة رجعية أو حتى الحرص على الصلاة في جماعة نوع من الغلو في الدين وفي المقابل طائفة أخرى تعتبر الاكتفاء بالفرائض تفريطا وتسوي بين الصغائر والكبائر والأخذ بالرخص الشرعية تعقيدا وهكذا الناس متفاوتون في أذواقهم مختلفون في أهوائهم فلا يصلحون أن يكونوا مقياسا وإلا وقع الفساد "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن". والغلو لغة حسبما تناولته بعض المعاجم ما جاء عن ابن دريد الأزدي: الغلو: ارتفاع الشيء ومجاوزة الحد فيه، ومنه قوله تعالى: "لا تغلو في دينكم" أي "لا تجاوزوا المقدار" وقال الأزهري: غلا في الدين يغلو غلوا إذا جاوز الحد، كما قال ابن زكريا: "تغالى لحم الدابة" إذا انحسر وبره، وذلك لا يكون إلا عن قوة وسمن وعلو. وشرعا فإن الغلو كما جاء في القرآن الكريم قول الله تعالى: "قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق"، وقال (ص): "إياكم والغلو في الدين". وقال (ص): "هلك المتنطعون قالها ثلاثا". قال النووي: "هم المتعمقون الغالون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم" وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رسول الله (ص) كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع"، ويضيف د. الكودة قائلا: إذن يمكن أن نقول بأن الغلو اصطلاحا هو: "مجاوزة حدود ما شرعه الله بقول أو فعل أو اعتقاد". ولقد عرف هؤلاء الغالين المتطرفين بالغلو والجفوة وقد كانوا شديدي القسوة والعنف على المسلمين وقد بلغت شدتهم حدا فظيعا فاستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فروعوهم وقتلوهم. أما أعداء الإسلام من أهل الأوثان وغيرهم فقد تركوهم ووادعوهم فلم يؤذوهم ويخبرنا الرسول (ص) عن هذه الصفة بقوله: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"1. ولقد سجل التاريخ القديم والحديث صحائف سوداء لهؤلاء الغالين المتطرفين في هذا الشأن عن ذلك هذا الموقف المروع الذي حدث عندما "لقي الخوارج في طريقهم عبد الله بن خباب فقالوا: هل سمعت من أبيك حديثا تحدثه عن رسول الله (ص) تحدثناه، قال: نعم سمعت أبي يحدث عن رسول الله (ص) أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول فقالوا: أنت سمعت هذا من أبيك تحدثه عن رسول الله (ص) قال: نعم فقدموه على شفير النهر، فضربوا عنقه فسال دمه كأنه شراك نعل وبقروا بطن أم ولده عما في بطنها وكانت حبلى ونزلوا تحت نخل مواقير –(كثيرة الحمل بالرطب)- بنهروان فسقطت رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فيه فقال أحدهم: أخذتها بغير حقها، وبغير ثمنها، فلفظها من فيه واخترط أحدهم سيفه وأخذ يهزه فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه به يجربه فيه فقالوا: هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه في ثمنه" فهذه معاملة الغالين المتطرفين للمسلمين والكافرين قسوة وشدة وعنف على المسلمين ولين ولطف وموادعة للكافرين. بينما القرآن يقول: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم "2. فانظر كيف عكسوا الآية رأسا على عقب. ويواصل د. الكودة وصفه لهم قائلا : إن من كبرى آفات هؤلاء الغالين المتطرفين ضعف فقههم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله (ص) ونقصد بذلك سوء فهمهم وقلة تدبرهم وتعقلهم وعدم إنزال النصوص منازلها الصحيحة، وقد دلنا رسول الله (ص) إلى هذا المرض الخطير حيث قال فيهم: "يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم" فقد شهد لهم الرسول (ص) بكثرة التلاوة والقراءة لكتاب الله ومع ذلك هم مذمومون، قال الحافظ بن حجر: "قال النووي: إنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب". وتحدث د. يوسف الكودة عن أسباب انتشار ظاهرة الغلو بقوله: وهناك أسباب كثيرة تسببت في بروز مثل هذه الظواهر –ظاهرة الغلو-، ظاهرة التكفير، ظاهرة التطرف ومن ضمن هذه الأسباب على سبيل التمثيل لا الحصر الأسباب السياسية التي تتمثل في إقصاء شريعة الله تبارك وتعالى عن الحكم في كافة شئون الحياة وحصرها في جوانب محدودة ولقد كان لهذا الأمر الخطير وقع عظيم وألم كبير في نفوس بعض المخلصين من أبناء أمة الإسلام الأمر الذي جعلهم ينحون هذا المنحى كما تجلى هذا الانحراف السياسي في حملات السجن والتعذيب التي لحقت ببعض العاملين للإسلام ودعاته في بعض بلاد العالم الإسلامي في وقت واحد أو فترات متقاربة وتحت ضغوط هذه السجون وهذا التعذيب المروع تفجرت ظاهرة الغلو والتكفير من بعض الشباب المعتقلين وأخذوا يتساءلون عن حكم أولئك الحكام فكانت الإجابة الحاضرة عندهم حسب علمهم ودون الرجوع إلى ميزان الشرع هي :الكفر" ثم تساءلوا عن حكم أعوانهم والعاملين في هيئاتهم وأفراد الشعب فكانت الإجابة في كل مرة هي "الكفر". وازداد الاتساع حتى شمل كل من لم يوافقهم على رأيهم ولا شك أن في هذه النظرة علوا وتجاوزا لا يقره الإسلام، ويقول ابن تيمية3: "كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنا بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأن الكذب والزنا حرام لحق الله، وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله"، بالإضافة الى الأسباب الإجتماعية التي يرجع بعض الشباب سبب تطرفهم إلى أسرهم وطبيعة العلاقة بينهما، فبعض الأسر قد تأثرت بمكائد أعداء الإسلام حتى انحرفت عن هدى ربها في كثير من تعاليمه فأنكرت على أبنائها الملتزمين بتعاليم الدين الذين ينأون عن مجاراتها في تقاليد الجاهلية وأخذت تنظر إليهم نظرة سيئة، تارة سخرية واستهزاء وأخرى تخلفا ورجعية ويتبع ذلك قسوة في المعاملة وحرمان من مميزات أقرانهم مما ألجأ ذلك بعض الشباب إلى استخدام العنف والهروب والعزلة والسخط والنقمة. ومن القطاعات التي تؤثر في سلوك هؤلاء الشباب وتدفعهم إلى هذا السلوك الجامعات والمدارس وما بها من أوضاع سيئة ولا سيما في دول العالم الثالث الفقير فمعظم المدارس والجامعات الموجودة في المجتمعات الإسلامية ينتشر فيها الاختلاط ويشجع وكثير منهما يدرس نظريات الكفر والإلحاد والمفاهيم الجاهلية في الأخلاق والاقتصاد والسياسة والاجتماع هذا مع عدم اهتمامهم بنشر أو تدريس الثقافة الإسلامية كما ينبغي. ومن القطاعات كذلك التي أسهمت بنصيب الأسد في انحراف الكثير من أبناء المجتمع الإسلامي الإعلام بكافة وسائله: المسموعة والمقروءة والمرئية، فحيثما توجهت وجدت الإعلام في أغلب برامجه يدعو تصريحا أو تلميحا بلسان حاله أو مقاله إلى العلمانية اللادينية، فمن دعوة إلى السفور والتبرج إلى الغناء الخليع والرقص المثير وتزيين السوء والدعوة للجريمة، علاوة على وجود أسباب نفسية. وخلص د. يوسف الكودة في ختام ورقته الى أن العلاج لهذه الظاهرة يتمثل في: الأسرة وأولي الأمر والإعلام وغير ذلك. إلا أني أود أن أركز على وسيلة هي على قائمة الوسائل ومن أهمها ألا وهي "الحوار" فالحوار الحر البناء من الأساليب الناجحة في علاج هذه الظاهرة. المصدر: صحيفة الأحداث