قبيل صلاة العشاء بساعة ونيف راحت أفئدة المصلين تهوي نحوه يحدوها صوت شجي يترنم بآيات القرآن بلكنة سودانية مميزة، لتمتلئ باحته الواسعة وطوابقه العليا وسطوحه بفيض من الرجال والنساء والشباب والفتيات الذين تدفقوا من كل حدب وصوب لصلاة التراويح بمسجد "سيدة سنهوري" بالعاصمة السودانية الخرطوم. وفي الشوارع المحيطة بالمسجد القائم بضاحية المنشية تمتد صفوف السيارات التي تقل المصلين لأكثر من كيلومتر كامل، لتصاب حركة المرور بشارع الستين السريع المجاور بتوقف شبه تام، وكأن المنطقة كلها تخشع مع السودانيين وتلاوتهم التي تميز بها إماما المسجد "الزين محمد أحمد" و"صالح أحمد صالح". فبعد عقود من تأثر السودانيين بتلاوة مشايخ الديار المصرية أمثال محمود خليل الحصري وعبد الباسط عبد الصمد والمنشاوي، وجد هؤلاء ضالتهم في الزين وصالح تلميذي خلوة الشيخ الدرديري بمنطقة خرسي الشهيرة بتخريج قراء القرآن الكريم. ويقول د. معتز أحمد مصطفى الطبيب بوزارة الصحة السودانية وأحد مصلي مسجد "سيدة سنهوري ": "أصلي هنا طلبا لتلاوة سودانية كاملة الدسم". الصديق عبد القادر، القيادي بمنظمة "صناع الحياة" بالخرطوم، أكد نفس المعنى قائلا: "أصلي هنا لسماع تلاوة مشايخ خرسي المميزة والاستمتاع بصوت الشيخ الزين". وسعيا للخشوع في الصلاة يحرص الفتح شعبان، المهندس بشركة بترودار، على الصلاة بذات المسجد، وقد أوضح: "اعتدت على أداء التراويح في هذا المسجد لجمال ونداوة صوت الإمام الذي يُبكي الناس خشوعا؛ حيث يقل سرحاني كثيرا أثناء الصلاة". وأضاف: "أما إذا صليت في المسجد المجاور لي ينعدم عندي البكاء والتركيز، وقد تضاف إليهما ثالثة الأثافي وهي النعاس، الذي يجعلني عبئا ثقيلا على من حولي من كثرة ترنحي ووكزاتي لهم؛ فتجنبا لكل هذا أتكبد عناء الذهاب بعيدا إلى مسجد سيدة سنهوري". تلاوة تجمع الفرقاء ارتباط السودانيين بتلاوة إمامي مسجد "سيدة سنهوري" التي تناغم وجدانهم لم يقتصر على المواطنين العاديين، بل تخطاهم ليشمل نجوم السياسة الذي تخلوا عن خلافاتهم ليصطفوا كتفا بكتف وقدما بقدم للصلاة خلف القارئ الشاب الشيخ الزين. فبين صفوف المصلين يجتمع الصوفيون والسلفيون، ويسجد د. نافع علي نافع مساعد الرئيس السوداني، ود. عوض الجاز وزير المالية، والزبير محمد الحسن وزير الطاقة بجوار قياديين بمجلس ثورة الإنقاذ 1989 المعارضة، والقيادي بالمؤتمر الشعبي المعارض الشيخ إبراهيم السنوسي. ومسجد "سيدة سنهوري" أحد أوقاف أسرة البرير السودانية التجارية الشهيرة، ويعد من أحدث مساجد العاصمة الخرطوم بناء وأجملها شكلا في تصميمه الخارجي وزخرفه الداخلي، ويستلقي بهدوء على جانب ضاحية المنشية الفخمة التي يقطنها الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي المعارض حسن الترابي. ولقارئ مسجد "سيدة سنهوري" الزين محمد أحمد المولود عام 1982 رحلة قرآنية بدأت منذ بلوغه العاشرة. فقد قضى أربع سنوات من الدراسة بالمرحلة الابتدائية في مسقط رأسه في قرية البنية النائية بمنطقة أم روابة ببادية شمال كردفان غرب السودان، والتي لا تبعد أكثر من 12 كم عن قرية "الزريبة" حيث الشيخ البرعي المادح الصوفي الشهير. وفي سن العاشرة قرر الزين الانتقال إلى خلوة الشيخ الدرديري بمنطقة "خرسي" التي تبعد 12 كم عن محلية أم روابة؛ حيث قضى طفولته مثل أقرانه في تلك البادية، يرعى الأغنام والإبل، بجانب توافره على القرآن الكريم حفظا وتجويدا. ولشيخ خلوة خرسي طريقة مميزة في التلاوة يصفها الصحفي المصري أحمد الدريني بأنها تشبه الغناء الإفريقي التقليدي الذي يتناشده الأفارقة في الغابات ومواسم الأفراح والحصاد والحرب، وتختلف عن طرائق التلاوة التي كانت سائدة في السودان. ومن هذا الشيخ توارث الزين ورفيقه صالح هذه التلاوة وأضاف كل منهما بصمته الخاصة عليها، فبينما يكتفي الزين برواية "حفص"، يتلو صالح برواية "الدوري"، ورغم تباين الروايتين إلا أن طريقة الأداء واحدة. خلوة خرسي.. تلاوة مميزة بعد إقبال السودانيين عليها أصبح تلاميذ خلوة خرسي بتلاوتهم المميزة أئمة كل المساجد الكبيرة بالخرطوم، التي صار ليلها يصدح بمعزوفة واحدة طوال الشهر الكريم، وقد خصصت إذاعة تبث على موجة (FM) لبث تلاوة الشيخ الزين على مدار 24 ساعة يوميا. وقالت مصادر مطلعة ل"إسلام أون لاين.نت": إن مسئولين حكوميين يعملون الآن على إطلاق إذاعة أخرى للشيخ صالح أحمد صالح "لتضمخ الأجواء السودانية بعبير تلاوة تلامذة خلوة خرسي وبالرواية التي يحبها أهل السودان.. رواية الدوري". ويعتبر السودانيون رواية "الدوري"، المنتشرة بوسط السودان بوادي كردفان وبعض أنحاء دارفور، روايتهم المميزة بين أمم القرآن في العالم. في حين تنتشر رواية "ورش" بشمال وغرب السودان، وتعم رواية "حفص" معظم أنحاء السودان وخاصة المدن الكبرى. وهناك عشر قراءات متواترة للقرآن الكريم عن أئمة القراءات العشر، ولكل منها رواته، أشهرها في المشرق العربي رواية حفص عن قراءة الإمام عاصم الكوفي الذي كان شيخ القراء بالكوفة، وجمع بين الفصاحة والإتقان والتحرير والتجويد وتوفي عام 127ه. أما رواية الدوري فهي عن قراءة أبي عمرو البصري الذي توفي بالكوفة عام 154ه، وعلم القراءات هو علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية، وطريق أدائها اتفاقا واختلافا مع عزو كل وجه لناقله.