لقد كان شهر رمضان ميدانا يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق فيه المتسابقون، ويحسن فيه المحسنون، وقد فاز فيه الموفقون، وخسر فيه المحرومون. ومسكين من أدرك هذا الشهر ولم يظفر من مغانمه بشيء؛ ما حجبه إلا الإهمال والكسل والتسويف وطول الأمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم :( رغم أنف إمرء دخل عليه رمضان وخرج ولم يغفر له) ترحل شهر الصبر والهفاة وانصرما ** وأختص بالفوز في الجنات من خدما وأصبح الغافل المسكين منكسرا ** مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما من فاته الزرع في البزار فما ** تراه يحصد إلا الهم والندما وإن الأدهى من ذلك والأمر ، أن يوفق بعض العباد لعمل الطاعات والتزود من الخيرات، حتى إذا انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا، وعلي أعقابهم نكصوا، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير . قيل لبشر رحمه الله: إن قوما يتعبدون ويتهجدون في رمضان، فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها . وسئل الشبلي رحمه الله: أيهما أفضل رجب أم شعبان؟ فقال : كن ربانيا ولا تكن شعبانيا. وعندما سئلت عائشة رضي الله عنها هل كان صلى الله عليه وسلم يخص يوما من الأيام؟ فقالت لا، كان عمله ديمة. إن بقاء المسلم ومصابرته علي العمل الصالح بعد رمضان علامة قبول له عند ربه الكريم المنان، وإن تركه للعمل الصالح بعد رمضان، وسلوكه مسلك الشيطان، دليل علي الذلة والهوان والخسة والدناءة والخذلان، وكما قال الحسن البصري : ( هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم) . وليعلم الذين تركوا العمل وتكاسلوا عنه بعد رمضان أن استدامة العبد علي النهج المستقيم، والمداومة على الطاعة، من أعظم البراهين علي القبول، قال تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )، وقال الحسن البصري: ( إن الله لم يجعل للمؤمن أجلا دون الموت ثم قرأ ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )). ولئن انتهى رمضان فهناك مواسم تتكررُّ؛ فالصلوات الخمس من أجلّ الأعمال وأول ما يحاسب عليه العبد، ولئن انتهى صيام رمضان فهناك صيام النوافل كالست من شوال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كمن صام الدهر)، وهناك صيام الاثنين والخميس والأيام البيض وعاشوراء وعرفه وغيرها. ولئن انتهى قيام رمضان فهناك قيام الليل، قال تعالى واصفا عباده المؤمنين ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون )، وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة بعد الفريضة قال: (قيام الليل)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام بعشر آيات لم يكن من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين) فكيف نداوم علي العمل الصالح؟ أولا: لابد من العزيمة الصادقة علي لزوم العمل والمداومة عليه وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن أيّ الأعمال أفضل قال:( ما دام وإن قل)، وهذا يتطلب منا ترك العجز والكسل ولذا كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من العجز والكسل لعظيم الضرر المترتب عليهما. ثانيا: القصد في الأعمال ولا تحمل نفسك مالا تطيق ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:( خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا)، والبركة في المداومة فمن حافظ على قراءة جزء من القرآن كل يوم، ختمه في شهر، ومن صام ثلاثة أيام كل شهر فكأنه صام الدهر كله، ومن حافظ على اثنتي عشرة ركعة في كل يوم وليله بنى الله له بيتا في الجنة. ثالثا: علينا أن نتذكر أنه لا يحسن بمن داوم علي عمل صالح أن يتركه فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل). رابعا: نستحضر ماكان عليه أسلافنا الأوائل فهذا حبيبنا صلى الله عليه وسلم كما روت عائشة رضي الله عنها أنه كان إذا نام من الليل أو مرض صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة (رواه مسلم). وترك صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في رمضان فقضاه في شوال، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال صلاة الفجر حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فأني سمعت دف نعليك في الجنة فقال: (ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي). وينبغي للمؤمن أن يعيش بين الرجاء والخوف، قال: الحافظ بن رجب: لقد كان السلف يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يجتهدون بعد ذلك في الدعاء بقبوله ويخافون من رده وإبطاله، قال علي رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم للعمل الم تسمعوا اللّه عز وجل يقول: ( إنما يتقبل اللّه من المتقين).، وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن اللّه تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلى من الدنيا ومافيها، لأن اللّه يقول: ( إنما يتقبل اللّه من المتقين)، وقال عبد العزيز بن أبى دواد: أدركتهم يجتهدون في العمل فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أيقبل منهم أم يرد؟ وسألت عائشة رضي اللّه عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى:( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)، أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم؛ (أولئك يسارعون في الخيرات ) رواه الترمذي أسأل الله الذي منّ علينا وعليكم بالصيام والاعتكاف و العمرة والصدقات أن يمنّ علينا بالهدى والتقى وقبول العمل والاستمرار علي الأعمال الصالحة والاستقامة فإن الاستمرار على الأعمال الصالحة من أعظم القربات ولذلك جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه فقال: أوصني قال ( قل آمنت بالله ثم استقم) متفق عليه، وفي رواية لأحمد قال :( قل آمنت بالله ثم استقم قال: يا رسول الله كل الناس يقولون ذلك، قال: قد قالها قوم من قبلكم ثم لم يستقيموا)، فينبغي على المؤمنين أن يستمروا على الاستقامة في طاعة الله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء )