عرف النّاس المجتمع السوداني بأنه مجتمع متدين قائمٌ على أساسٍ متينٍ من العادات الكريمة، والخصال الفاضلة. وهذا الصيت الحسن الذي يسير حيث سار أهل السودان يرجع الفضل فيه للأجيال التي سبقتنا، فقد استطاعت تلك الأجيال أن ترسخ في أذهان الشعوب الإسلامية كافة صورة جميلة عن ما يتمتع به السودانيون من أخلاق السماحة والمروءة والندى، والمجموعات السودانية التي قدّر لها أن تهاجر خارج هذه البلاد كان لها فضل مشكور في تثبيت هذه الصورة والمحافظة عليها وتقديم نموذج كريم جسّد قيم أهل السودان الكريمة، وقد رأيت بنفسي ولمست بيدي ما تكنّه شعوب كثيرة لأهل هذا البلد من تقدير جم واعتراف بالفضل. وظللنا نحن السودانيين نتغنى بهذه الأمجاد ونباهي بها في كل محفل، ولا شك أنّ من حق الشعوب أن تفعل ذلك، ما دام ذلك لا يوقعها في داء الغرور، ولا يلهيها عن متابعة السير في درب الكمالات، وقد قال شاعر عربي قديم عن بني تغلب: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ...قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ونحن لا نريد لقومنا أن تلهيهم عبارات الثناء التي يطوق بها الآخرون أعناقنا، ويطمئنوا إلى ذلك، بينما المجتمع يشهد تحولات اجتماعية وثقافية بالغة الخطورة، ونحن نلمس آثار هذه التحولات في علاقاتنا الأسرية التي بدأت تتهاوى، وفي مظاهر الانفلات التي أطلت برأسها في شوارعنا وأسواقنا وجامعاتنا غير مبالية بخلق ولا دين، ونلمس آثار هذه التحولات في نوعية الجرائم التي تسجلها مضابط الشرطة وتزداد مع كل يوم تعقيدا. إن خطورة التحولات التي نشكو منها ليست في ظهورها ولا في كثرتها فحسب، وإنما تكمن الخطورة في حالة الحياد والسلبية التي نتعامل بها مع هذه الظواهر التي تمس قيم المجتمع في صميمه، وتؤذن بانهياره وتقويضه. وقد علمنا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم أن الوقوع في الإثم خطيئة لا ريب فيها، إلا أن الخطيئة الأكبر هي تبلد الإحساس تجاه الأخطاء والذنوب حتى يألفها الناس ويركنوا إليها. والمجتمعات الإنسانية لا تنحدر عادة إلى الهاوية بين يوم وليلة ولكنّ الانحدار يبدأ بالخطوة الأولى التي يخطوها المجتمع في طريق الفساد والانحلال، فيسكت الناس عنها حتى يفضي بهم هذا السكوت إلى تحلل أواصر المجتمع ووقوعه في الدرك الهابط، والأوضاع الشاذة تبدو في كثير من الأحيان على حالة من الضعف يخيل لأصحاب النظر القاصر أنها سحابة صيف عن قريب تقشع، ولكنها تزداد رسوخا مع الأيام. وتاريخ الشعوب يشهد بهذه الحقيقة، فأوروبا على سبيل المثال انحدرت إلى هاوية الانحطاط الخلقي عبر عقود من الزمان حتى جاء عليها وقت يريد فيه المفسدون في الأرض أن يقننوا لفسادهم بحماية القانون. والمصير الذي نخشى على مجتمعنا أن يؤول إليه يوجب علينا جمعيا أن نقف وقفة إشفاق ومراجعة وتلمسٍ للأسباب الحقيقة التي هيأت المناخ لهذه الجرثومة الخبيثة التي تفتك بنا جسدا وروحا ، وحاضرا ومستقبلا . والجهات الرسمية في هذا البلد هي أول مسئول عن إنقاذ القانون الرادع الذي يوقف هذا الخبال ويمنع الشر عن مجتمعٍ يلهث رجاله ونساؤه وراء لقمة العيش بينما تتفلت فلذات أكبادهم من بين أيديهم. الافتتاحية