الأستاذ عبد الوهاب الأفندي «1» يواجه الجنرال سكوت قرايشن مبعوث الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي زار السودان هذا الأسبوع معضلة كبرى تجسد إشكالية سياسة أوباما الخارجية برمتها. فقد جاء أوباما إلى الحكم وهو يعد بالقطيعة مع سياسة سلفه جورج دبليو بوش الذي اختار الصدام والحرب وسيلة لحل خلافاته مع خصوم أمريكا، بانتهاج سياسة الحوار والتفاهم سبيلاً لحل الخلافات. «2» هناك إشكالية عامة تواجه هذا المنهج وهي: ما الذي سيحدث لو فشل الحوار؟ فالسياسة الخارجية الأمريكية لها أهداف معلنة وواضحة، مثل إيقاف برنامج إيران النووي. فهل سيعود أوباما إلى سياسة سلفه في المواجهة مع إيران إذا لم تستجب عبر الحوار؟ نفس الشيء يمكن أن يقال عن المطالب الأمريكية حول دارفور والجنوب وغير ذلك في السودان: متى ستنتهي سياسة الحوار وتتم العودة إلى المربع الأول؟ «3» إذا ترك الأمر لبعض مساعدي أوباما الحاليين وعدد من أنصاره من المسؤولين السابقين تحت إدارة بيل كلينتون، مثل سفيرته في الأممالمتحدة سوزان رايس وزميلها السابق في مجلس الأمن القومي جون برندرغاست، فإن إيقاف الحوار وبداية الصدام يجب أن يكون اليوم قبل الغد. أما نشطاء دارفور الكثيرون فقد وجهوا اتهامات غاضبة لقرايشن باسترضاء الخرطوم، بل إن أحد قادة التمرد وصفه بأنه يتصرف كما لو كان وزير خارجية الرئيس البشير. «4» هناك إشكالية إضافية تتعلق بمهمة المبعوث الرئاسي الخاص، لأنه شخص يعمل خارج البيروقراطية الرسمية التي ترسم السياسة الخارجية، وهي الخارجية ومجلس الأمن القومي والبنتاغون. هذه الأجهزة في نزاع دائم مع بعضها حول محددات السياسة الخارجية، ولكن وجود مبعوث رئاسي مثل قرايشن يحاول الاضطلاع بدور رئيسي في رسم وتنفيذ السياسة الخارجية يجعله هدفاً لكل هذه الأجهزة مجتمعة. «5» في نهاية المطاف فإن مصير قرايشن سيحدده مدى نجاحه في تحقيق اختراق في حل أزمات السودان المتراكبة، كما فعل سلفه جون دانفورث مبعوث الرئيس بوش الذي نجح في وضع اللبنات الأولى لعملية السلام التي أدت في نهاية المطاف إلى اتفاق نيفاشا. وهذا يعتمد على تعاون الخرطوم مثلما يعتمد على مقدراته الدبلوماسية. «6» الحكومة السودانية استبشرت خيراً بلهجة قرايشن التصالحية، ولكنها لم تقدم له حتى الآن ما يعزز موقفه تجاه منافسيه في الإدارة أو أمام الرأي العام المعبأ ضد الخرطوم. وفي هذا الصدد يذكر أن أوباما نفسه كان قد شن هجوماً عنيفاً ضد إدارة بوش حينما تسربت وثيقة «خارطة طريق» كانت الخارجية قد أعدتها لإصلاح العلاقات مع السودان، واتهم بوش وإدارته بالتهاون والتراخي في الضغط على الخرطوم. ويذكر أن قضية دارفور كانت القضية الوحيدة التي أصدر المرشحون الرئاسيون الثلاثة بياناً مشتركاً بشأنها إبان الحملة الانتخابية كان القاسم المشترك فيه هو التشدد ضد الخرطوم. «7» مثلما يواجه قرايشن صقور الإدارة و «جهاديي» تحالف إنقاذ دارفور وأضرابهم، فإن متطلبات تحسين العلاقات مع واشنطن تواجه تشدداً من صقور الحكومة السودانية والخيارات المحدودة أمام السياسة السودانية. وقد كانت أكبر عقبة واجهت مهمة قرايشن هو أن الحكومة كانت تمنحه تنازلات سرية مع استمرار الخطاب العلني المتشدد تجاه القضايا المعنية «مثل طرد منظمات الإغاثة» مما يجعل من الصعب عليه استثمار هذه التنازلات لتقوية موقفه. «8» أخطأت الحكومة حين اعتقدت أن قرايشن هو الرئيس أو صانع السياسة الخارجية، في حين أنه ليس سوى موظف له مهمة مؤقتة. وتمثل دارفور حالياً واحدة من أهم قضايا السياسة الداخلية «وليس الخارجية فقط» الأمريكية بسبب المشاعر القوية تجاهها في الشارع الأمريكي. ولهذا فإن مجال المناورة فيها محدود ليس فقط لقرايشن، بل لهيلاري كلينتون وأوباما كذلك. «9» هناك إشكال آخر في السياسة السودانية، وهو اعتبار التحرك باتجاه إصلاح العلاقات مع واشنطن بديلاً لإصلاح العلاقات مع القوى السودانية، ليس فقط في الجنوب ودارفور، بل في الشمال أيضاً. فالنظام أشبه بصاحب موسى الذي يجده في كل صباح في اشتباك مع خصم جديد، وعندما يحاول قرايشن أو غيره إخراجه من ورطته يقول له: أتريد أن تقتلني كما قتلت رجلاً بالأمس؟ «10» إن المشكلة في دارفور أو الجنوب ليست في نهاية المطاف مشكلة أمريكا، بل هي مشكلة السودان. صحيح أن التدخلات الدولية الكثيرة عقدت المشكلة، وخلقت الأوهام عند البعض بأن تدخلاً دولياً ذا بأس قادم لا محالة، وهو سيرفع عنهم عبء كل قرار وعمل، مما دفع بكثيرين للتشدد أو التواكل أو الاثنين معاً. والمطلوب هو أن يتحرك السودانيون، وعلى رأسهم الحكومة لإزالة أسباب الخلاف. ولعل أضعف الإيمان هو أن تحدث المطابقة بين مسمى الحكومة ومخبرها، فتصبح بالفعل حكومة «وحدة وطنية» تجمع السودانيين ولا تفرقهم. «11» المبعوث الأمريكي قرايشن اجتهد حتى الآن في محاولة ترجمة سياسة أوباما التوافقية عملياً، وقد اتبع نهجاً اعتبره البعض تصالحياً أكثر من اللازم مع الخرطوم، لأنه كان يأمل أن ينال نتيجة لذلك تعاونت الحكومة مع مساعيه لفض النزاعات القائمة في دارفور والجنوب. ومن عجب أن مصير قرايشن هو اليوم في يد الخرطوم أكثر منه في يد واشنطن، والعكس بالعكس. فلو أن الخرطوم قدمت له ما يدفع به غائلة منتقديه، نجا ونجت. أما إن أطيح بقرايشن لفشله في مهمته فإنه سيمر وقت طويل قبل أن يجرؤ مسؤول أمريكي على التوصية باعتماد نهج تصالحي مع الخرطوم.