كان الإسلام المهاجر من مكة الجاهلية لا يزال خافض الجناح في يثرب ، وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لايزالون تحت البلاء : يمتحن الله صبرهم بالألم ، ويختبر إيمانهم بالفتنة ، ليمحص الذين يجتبيهم لنشر الدعوة ، والذين يصطفيهم لجهاد الرسالة .فالقرشيون يوثبون عليهم القبائل ،واليهود ينصبون لهم الحبائل ، والمنافقون يدسون لهم الغدر في الملق . فلما أذن الله لدينه أن يعود ، ولمجده أن يسود ، ولنوره أن يتم ، أرسل جنوده الثلاث مئة إلى وادي بدر ، يتعاقبون على سبعين نضوا من أباعر المدينة ، ويستعينون بصبر المجاهد على القلة ، وبعزة المؤمن على الذلة ، وبعفة الزاهد على الفاقة ، ويسيرون في استغراق الصوفي إلى ما وعدهم الله من إحدى الطائفتين : العير أو النفير – العير قافلة التجارة التي كان يقوم بها أبو سفيان من الشام ، والنفير القوة التي قام بها أبو جهل من مكة لنجدة العير . ولقد اجتمع في الطائفتين فرسان قريش ورجالاتها ، فمن لم يكن فيهما كان من الحقراء الذين لا غناء فيهم . ومن هنا سار المثل المشهور : فلان لا العير ولا في النفير .- وإحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة .ولكن العير الذي يفهق بالثراء الضخم نجا به أبو سفيان على الساحل ، فلم يبق إلا مكة الغاضبة لثروتها وسطوتها ودينها ، قد نزلت بالعدوة القصوى من الوادي مع أبي جهل ! تسعمائة وخمسون من فلذات أكبادها أرسلتهم في الخيل والحديد ، يجيشون على محمد بالغل ، ويفورون على صحبه بالحفيظة ، ويرون الإسلام في هذا العدد القليل ، والمظهر الهزيل ،فيحسبون أنه أمكنهم من نفسه ، ودلهم على مصرعه التقى الجمعان في صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان ، وكان المسلمون على فقرهم وضرهم ثلث المشركين ، وكان المشركون على كثرتهم وعدتهم صفوة قريش . فموقف الإسلام من الشرك كان يوم إذن موقف محنة . كان بين العدوتين في بدر مفرق الطريق ، فإما أن يقود محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو ، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك . وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب .-البئر – ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب .فكان طريق وعقبة ، ونور وظلمة ، وإله وشيطان ، فإما أن يتمزق تراث الإنسانية على هذا الصخر ، ويتبدد نور الله في هذا القفر ، وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر ، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذا الطريق ، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه الموقعة ,! " اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك ! اللهم فنصرك الذي وعدتني !اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض!" ذلك كان دعاء الرسول أمام العريش ووجهه إلى القبلة ، ويداه إلى السماء ، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه فيرده الصديق ويقول : بعض هذا يا نبي الله ، فإن ربك منجز وعده ! وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل الوعد بالنصر ، وجاءت البشرى بالجنة ، فغاب المسلمون في إشراق عجيب من الإيمان ، لا يرسم في أخيلتهم إلا الحور ، ولا يصور في أعينهم إلا الملائكة .وقذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر ، وانجاب القتم الكثيف عن النور الوامض من ربوع يثرب ، وانكشفت المعجزة الإلهية عن انتصار ثلاثمئة على قرابة ألف ! موقعة بدر الكبرى لا تذكر بخطتها ،وعدتها ،ونفقتها ،وعديدها في تاريخ الحرب ، فلعلها في كل أولئك لا تزيد على معركة بين حيين في مدينة ؛ إنما تذكر بنتائجها وآثارها في تاريخ السلم ، لأنها كانت حكما قاطعا من أحكام القدر غير مجرى التاريخ ، وعدل وجهة الدنيا ، ومكن للعرب في دورهم أن يبلغوا رسالة الله ، ويؤدوا أمانة الحضارة ، ويصلوا ما انقطع من سلسلة العلم . لم يكن النصر فيها ثمرة من ثمار السلاح والكثرة ، ولكنه كان ثمرة من ثمار الإيمان والصدق . والإيمان الصادق قوة من الله فيها الملائكة والروح ، وفيها الأمل والمثل ، وفيها الحب والإيثار ، فلا تبالي العدد ، ولا ترهب السلاح ، ولا تعرف الخطر ! بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوة في بدر، والقادسية ،واليرموك . وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية الجديبة ،والعروبة الشتيتة ،عمرانا طبق الأرض بالخير ، وملكا نظم الدنيا بالعدل ، ودينا ألف القلوب بالرحمة . إن اليوم السابع عشر من شهر رمضان سيظل يوما مشهودا في تاريخ الأمة العربية بنزول القرآن وغلبة الحق . ص284-287 وحي الرسالة ج1 بتصرف يسير لأديب العربية الكبير الأستاذ احمد حسن الزيات رحمه الله – إعداد الأستاذ يحي رسام