منحت لجنة جائزة نوبل للسلام جائزتها لهذا العام للرئيس الامريكي باراك اوباما وقال الرئيس الامريكي نفسه ان الدهشة قد اعترته عندما أبلغ بنبأ فوزه بالجائزة لانه لم يمض في سدة حكم الولاياتالمتحدة اكثر من تسعة اشهر وان سياساته لم تؤت أكلها بعد. ويقول البعض ان هذه الجائزة التي تعتبر أرفع الجوائز العالمية على الاطلاق منحت لاوباما لما ابداه من نوايا حسنة تجاه السلام العالمي ومن شأن هذه النوايا إذا ما وجدت طريقها إلى التنفيذ ان تجعل من عالم الغد عالماً غير عالم اليوم والأمس، وان تزول التوترات التي كثيراً ما أفضت إلى اندلاع الحروب بل ويصبح عالماً جميلاً تسوده المحبة والتعاون وعالماً تأخذ فيه الدول الكبرى الغنية بايدي الدول الفقيرة لتساعد على اخراج قرابة المليار من سكان العالم وافريقيا على وجه الخصوص ومساعدتها على التعافي من حالة الفقر المدقع التي تجعل كل هذ الكم الهائل يعيش تحت خط الفقر أي أن دخل الفرد اليوم لا يزيد عن دولار واحد. وليس الجوع والمسغبة وحدهما اللذان يهددان مئات الملايين من البشر في شتى بقاع العالم بل هنالك الاوبئة والامراض الفتاكة التي تقضي كل عام على الملايين من فقراء العالم. وعلى رأس هذه الأوبئة الملاريا والايدز وأمراض سوء التغذية. كما ان وفيات الاطفال تحت سن الخامسة ووفيات الأمهات في ازدياد مضطرد بسبب الافتقار إلى الرعاية الصحية الاولية في المناطق الريفية في افريقيا. وأحسب ان نوايا أوباما التي أهلته لنيل جائزة نوبل نوايا حقيقية ومبادئ راسخة لديه لانها وردت ضمن برنامجه الانتخابي ودافع عنها بكل القوة في وجوه الساسة الامريكيين التقليديين بل وضد تيار قوى متمثل في اللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد. وهؤلاء واولئك اصبحت لهم يد طولى في صناعة القرار الامريكي. وإينما خاض أوباما مناظرة انتخابية كان يروج لقناعاته الراسخة والتي تقوم على ضرورة احداث تغيير في السياسات الامريكية وأفلح أوباما بقدراته الخطابية الفائقة وحججه القوية ان يستميل الجمهور الامريكي فألتف جل الشعب الامريكي حوله ولم يقتصر تأييد برنامج أوباما الانتخابي على الأفارقة الامريكيين والأقليات بل وقفت بجانبه قطاعات عريضة من البيض أدت إلى ترجيح كفته وإحرازه ذلك الفوز المدوي كأول رئيس امريكي من أصول افريقية للولايات المتحدة بعد ان ضاق الشعب الامريكي ذرعاً بسياسات الرئيس السابق جورج دبليو بوش التي كانت دائماً تتسم بالرعونة والتهور والاندفاع وعدم التبصر في العواقب. ويرى كثير من المراقبين ان حالة الإدمان على الخمور التي كان جورج بوش يعانى منها وتعافى منها تركت أثراً على قواه العقلية لدرجة أنه لم يستطع ان يرتفع إلى مستوى منصبه الرفيع كرئيس لاكبر دولة في العالم بل على النقيض من ذلك تماماً فقد كان متسرعاً في قراراته وغير آبه بوقوف المجتمع الدولي في وجه خططه المتعجلة للتصدى للأرهاب الدولي في اطار ما اسماه «بالحرب على الأرهاب» وكان بوش انطباعياً ولم يتحل في يوم من الايام بحكمة رؤساء الدول العظمى وتقليبهم للأمور من كل وجوهها بل اسلم قياده إلى مستشاريه وبطانته في البيت الأبيض والكونجرس وجلهم من اللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد الذين يمثلون غلاة المتطرفين الامريكيين، فإذا قالوا ان الذي يجري في دارفور تطهير عرقي ردد ذلك كالببغاء، وإذا قالوا له ان الجنجويد يبيدون أهل دارفور ردد ذلك كثيراً وإذا قالوا له ان العراق في عهد صدام به اسلحة للدمار الشامل ردد ذلك القول وتشبث به غير مكترث لتقارير البعثات الاممية التي زارت العراق في ذلك العهد وشملت زياراتها التفتيشية قصور صدام بل وكل شبر في العراق، فقد قال المفتشون الذين بعثت بهم الأممالمتحدة إن العراق خالٍ من أسلحة الدمار الشامل.. لكن جورج بوش «المبرمج» كان لا يعير ذلك إلتفاتاً ويصر على وجود اسلحة للدمار الشامل في العراق ويردد ذلك القول في كل مقام وكل مقال. وعندما رفضت الأممالمتحدة تلك الادعاءات بناء على تقارير المفتشين عمد جورج بوش إلى تكوين تحالف ليتخذه مبرراً لغزو العراق وكان أكبر حلفائه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي أيده بقوة وأرسل قواته لتشارك في الحرب وترابط في جنوب العراق وشرع بوش في حربه الغاشمة ضد العراق واستخدم فيها كل ما في الترسانة الامريكية من اسلحة الفتك والتدمير ودك العراق من أقصاه إلى أدناه دكاً وخرب البنى التحتية وأعاد العراق عشرات السنين إلى الوراء ولقى مئات الآلاف من العراقيين مصرعهم أما المعوقون والجرحى فلا يكاد يأخذهم حصر وأصبح المواطن العراقي الذي كان يعيش في حالة من الرفاهية يعاني من امراض سوء التغذية ويفتقر إلى الخدمات الاساسية وانفرط عقد الأمن تماماً في العراق وأثار الغزاة الامريكيون النعرات بين العراقيين فاصبحوا يقاتلون بعضهم البعض واصبح قرابة الثلاثة ملايين عراقي في عداد اللاجئين وأودت الحرب بحياة اكثر من اربعة آلاف امريكي إلى جانب الآلاف من الجرحى حسب الاحصاءات الامريكية الرسمية وأنفقت الولاياتالمتحدة ترليونات الدولارات في حروبها العدوانية دون ان تحقق أي من أهدافها فقد اسمت حملتها على العراق «حرية العراق» ولكن الحرب انتهت دون تحقيق أي مكاسب بل ازداد العراق تنكيلاً وقيوداً وغرق في دوامة من العنف والفوضى وهذا مثال لسياسات بوش التي لم تحقق للولايات المتحدة أي هدف بل على النقيض من ذلك جلبت لها العداء واصبحت وبالاً على شعوب المنطقة. وعشية أحداث «11 سبتمبر» أعلن الرئيس بوش ان القاعدة التي تتخذ من افغانستان مقراً لها هي التي نفذت تلك الهجمات وانه سوف يهاجم تلك الدولة بضراوة للقضاء على تنظيم القاعدة وحركة طالبان وسوف يعمل بعد ذلك لإخراج افغانستان من الظلمات والتخلف إلى النور والديمقراطية. واستخدم بوش كل آلة الحرب الامريكية وقنابلها التي تزن عدة اطنان وطائرات بي 25 ودمر البنى التحتية في البلاد وحتى جبال تورا بورا لم تسلم من هجماته. وفي نهاية المطاف لم يحصد سوى الريح فما زال اسامة بن لادن والجواهري وكبار اعوانهما على قيد الحياة بل ويطلان من وقت لآخر عبر وسائل الاعلام من خلال تسجيلات فيديو ويتوعدان عدوهما الامريكي. وبهذا كان بوش خلال فترة حكمه اشبه بالثور في مستودع الخزف وكان كالمنبت. لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وفي نهاية المطاف ظهرت أكاذيب الادارة الامريكية فقد اعلن بان الادعاء بوجود اسلحة دمار شامل كان زوراً وبهتاناً وإفكاً. ومارست الادارة الامريكية من خلال قواتها النظامية ابشع انواع التعذيب والاذلال للعراقيين والأفغان وليس سجن أبو غريب وفظائعه وغوانتنامو وبشاعتها ببعيدة عن الاذهان. وادى كل هذا الى تشويه صورة امريكا في نظر العالم حين تبدت كدولة عدوانية تشن الحرب لاسباب واهية وتمارس ارهاب الدولة وتعذب المحتجزين والسجناء حتى اولئك الذين لم تثبت إدانتهم. وعندما أعلن الرئيس أوباما عن برنامجه الانتخابي إنه جاء ليحدث تغييراً جذرياً في السياسة الامريكية رحب الشعب الامريكي أيما ترحيب بالسياسة الجديدة التي إذا ما نفذت فسوف تغير الصورة السيئة للولايات المتحدة التي احدثتها سياسات جورج بوش. وأعلن اوباما انه سوف يعمل جاهداً على اغلاق سجن غوانتنامو السيئ السمعة الذي أهدرت فيه حقوق الانسان اهداراً تاماً وحرم المحتجزون حتى من المحاكمات العادلة كما اعلن أوباما انه سوف يخضع الضالعين في التعذيب للمساءلة واعلن في برنامجه الانتخابي طي صفحة التدخل في العراق الذي جر على الولاياتالمتحدة وعلى العراق وعلى منطقة الشرق الأوسط الاهوال والمصائب والمشاكل. ووعد أوباما بسحب قواته من العراق خلال فترة زمنية محددة. وفي مجال حل مشاكل العالم المستعصية حدد أوباما موقفه بانه يعول كثيراً على النهج الدبلوماسي بدلاً من سياسة سلفه التي كانت سداها ولحمتها التهديد والوعيد والعقوبات والغطرسة واستخدام القوة العسكرية الهائلة. وذكر الرئيس أوباما انه يعمل من أجل عالم خال من الاسلحة النووية وإذا توقف العالم عن سباق التسلح وتخلص من اسلحته النووية فإنه من الممكن توجيه ترليونات الدولارات من أجل رفاهية شعوب العالم. وهذا هدف سام لوضع حدد لمعاناة شعوب العالم الفقيرة وللصراعات والحروبات التي لم تخلف سوى الموت والدمار والخراب والمرارات. وبما ان الرئيس أوباما قد أعلن ذلك في برنامجه الانتخابي والتف الشعب الامريكي حوله فإنه لا يمكن ان يحيد عن هذا الخط قيد أنملة بعد ان أصبح عهداً والتزاماً وبعد ان نال ثقة معظم مواطنيه. ولذلك فإنه يستحق تلك الجائزة وعن جدارة لأنه رفع شعارات لا يرضاها الاستعماريون الجدد الذين يشكلون بطانة لمعظم الرؤوساء الامريكيين ولا يرضاها اللوبي الصهيوني الذي له دور كبير في مراكز صناعة القرار وبذلك فإن سياسات أوباما الجديدة تعتبر انقلاباً حقيقياً في السياسة الامريكية جدير بأن يجد الدعم والمساندة من الشعب الامريكي والشعوب الحرة في سائر ارجاء العالم وما منح جائزة نوبل سوى تقدير ضمني لمسار السياسة الامريكيةالجديدة التي رأت فيه لجنة جائزة نوبل بداية النهاية لعالم تتحكم فيه قوة احادية غاشمة وتسيره الاهواء وبدلاً من القضاء على الارهاب في العالم فقد ساعدت بساساتها العدوانية الظالمة على تفشى الارهاب في العالم واتساع دائرته كما زادت من حقد الشعوب المحبة للسلام ضد الولاياتالمتحدة التي ظلت تدعم وبكل القوة السياسات الاستيطانية الاسرائيلية وتصف حروبها وهجماتها المتكررة على المدنيين الفلسطينيين الابرياء بانها نوع من الدفاع عن النفس. حتى جاء أوباما واعلن ان احد همومه الكبرى طي صفحة الصراع في الشرق الأوسط ولكن لسوء الحظ جاءت إلى حكم اسرائيل حكومة نتياهو اليمينية المتطرفة التي تبنى المستوطنات ولا تريد سوى استسلام الفلسطينيين ورضوخهم للاملاءات التي تمليها عليهم ولكن هيهات وبالنسبة للحرب في دارفور اعلن باراك أوباما انه يهدف إلى احلال السلام في ربوع السودان واختار صديقه الجنرال اسكوت غرايشن الذي انضم إلى فريق أوباما بعد ان ادرك سياسته الرامية إلى أحداث تغيير جذري في الولاياتالمتحدة وتحسن صورتها في نظر العالم. ومنذ البداية إلتقى غرايشن بجميع الفرقاء السودانيين وابلغهم بان سياسة الادارة الجديدة ترمى إلى تحقيق سلام شامل في السودان. وعمل غرايشن جاهداً لتوحيد منبر التفاوض وحث حركات التمرد على التوحد من أجل اتخاذ موقف تفاوضي موحد ييسر من عمليه التفاوض بدلاً من التشظي والتشرذم الذي أدى إلى تكوين العشرات من الحركات المنشقة. وطار غرايشن إلى انجمينا واصطحب معه خليل إبراهيم الى الدوحة للانضمام إلى ركب التفاوض تحت رعاية حكومة دولة قطر. ولم يقف عند هذا الحد بل توجه إلى فرنسا لاقناع عبد الواحد محمد نور باللحاق بمفاوضات السلام في الدوحة إلا أنه وجد منه تصلباً وتعنتاً وهذا ناتج عن الموقف الفرنسي السلبي تجاه سلام السودان والذي ظل يحث عبد الواحد على عدم التفاوض وموقف ساركوزي مستمد من مواقف المحافظين الجدد في امريكا واللوبي الصهيوني الذين لا هم لهم سوى الإطاحة بحكومة الخرطوم والعمل على استبدالها بحكومة عميلة مثل حكومة كرازي. وفات على هؤلاء وأولئك ان الشعب السوداني متفرد في مواقفه الوطنية ولديه من الوعي ما يمكنه من افشال كل مخططات الاستعماريين الجدد. وجاء غرايشن إلى نزلاء المعسكرات في دارفور والذين يؤيد بعضهم عبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان وقال لهم ان هذا الشخص لا يملك قراره في ايماءة إلى تأثير ساركوزي ووزير خارجيته كوشنير عليه. وطلب من النازحين ان يختاروا ممثلاً جديداً لهم حتى لا تضيع حقوقهم خلال المفاوضات التي رفض عبد الواحد حضورها. وما يجدر ذكره ايضاً ان الجنرال غرايشن ابلغ حكومته بانه يرى ان لا مبرر لاستمرار فرض العقوبات على السودان. كل هذا يدل على مساعي غرايشن الحميدة والحثيثة والجادة لوضع حد لحالة الحرب في السودان واحلال السلام في ربوعه ونجد البون شاسعاً بين هذه السياسة الجديدة وسياسات الرئيس السابق بيل كلينتون وجورج دبليو بوش التي كانت تهدف إلى الإطاحة بحكومة السودان وجعلت من ذلك شغلها الشاغل وعمدت إدارة كلينتون إلى تسليح دول جوار السودان وتزويدها بالمال والعتاد والدعم اللوجستي لزعزعة الأوضاع في السودان من خلال دعم الجيش الشعبي لتحرير السودان وفي تلك الآونة اعلن الرئيس الاسبق جيمي كارتر على الملأ ان سياسة إدارة كلينتون تجاه السودان من شأنها ا ن تطيل امد الصراع في السودان وتضاعف من معاناة شعبه. ولن ينسى العالم الصور التي بثتها وسائل الاعلام لوزيرة خارجية كلينتون -مادلين أولبرايت- وهي تدق طبول الحرب في يوغندا «حقيقة لا مجازاً» وقالت وقتذاك للصحافيين ان حكومتها لن يهدأ لها بال إلا إذا اطاحت بحكومة الخرطوم. وظلت ذينك الادارتين الامريكيتين تقفان حجر عثرة امام جميع مفاوضات السلام والمساعي الرامية إلى وضع حد للاحتراب والمعاناة في السودان. ولذلك فإن سياسة أوباما تعتبر وبكل المقايسس انقلاباً في السياسة الامريكية تجاه السودان، ويرى كثير من المتابعين للشأن السوداني ان دعوة أوباما لاحلال السلام في ربوع العالم تشمل السودان وقد شرع مبعوثه الخاص في تنفيذ هذه السياسة. وإذا ما أفضت هذه السياسات إلى احلال السلام في ربوع السودان وأدت إلى تطبيع العلاقات بين الشعبين فإن الشعب الامريكي سيجد شعب السودان الذي يحترمه ويقدره يمد إليه الايادي مرحب بالتعاون في اطار معاملة الند للند. وإذا ما جاء أوباما للسودان بعد أحلال السلام في ارجاء السودان سوف يستقبله شعب السودان استقبال الابطال.