خراب مالطا المشهور تاريخياً، وصار يضرب به المثل عند المفارقات والمغالطات في الأفعال، لا يجد المراقب بداً من أن يطلقه على قرار الرئيس الأمريكي أوباما الأخير بسحب القوات الأمريكية من العراق، بدعوى أن الأمن قد استقر، والديمقراطية قد تحققت، وصار كل شيء على ما يرام - حسب الرواية الأمريكية -. إن التعجب والشعور بالمفارقة في محلهما تماماً، وقد مرت على احتلال أمريكا وحلفائها للعراق في مارس 2003 تسع سنوات حتى اليوم 2011م تقريباً، والقوات الأمريكية تحزم أمتعتها وترحل «قسراً» وليس «نصراً».. وما يقال ويذكر في هذا السياق كثير على الصعيد العراقي والأمريكي والاقليمي والعالمي، في نفس الوقت إذ أن الأسباب التي بنت عليها إدارة الرئيس بوش «الابن» قرارها بغزو العراق، وتحطيم نظام الرئيس صدام حسين بدعوى حيازته لأسلحة دمار شامل، قد كانت أكذوبة كبرى تبعاً لتقارير لجان البحث والتفتيش الأممية المختصة، بل لم تثبت صحتها إلى اليوم، وكذلك الحال بالنسبة للاتهام الآخر الذي وجه للنظام العراقي يومئذ، وهو وجود علاقة للنظام بتنظيم القاعدة، وتنظيمات إرهابية، وهو ما لم يثبت أيضاً. وهنا يذكر اعترافان على قدر من الخصوصية وهما: ü تصريح السيد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة يومئذ، وبعد سقوط بغداد مباشرة، بأن الغزو كان منافياً لدستور الأممالمتحدة، فالمادة الثانية من الدستور كما قال يومها تقول لايحق لدولة عضو في الأممالمتحدة تهديد أو استعمال القوة ضد دولة ذات سيادة لأغراض غير أغراض الدفاع عن النفس. ü ثم إفادة الرئيس بوش «الابن» نفسه التي اعترف فيها في 2 أغسطس 2004 بأنه حتى لو كان يعرف ما يعرفه «الآن» من عدم وجود أسلحة دمارشامل في العراق، كان سيقوم بما قام به من غزو واحتلال..! هنا والعالم كله يعلم ما تسببت فيه الحرب على العراق واحتلاله من خسائر بشرية في المدنيين، هي الأكبر في تاريخ العراق وتاريخ الجيش الأمريكي في عدة عقود، لابد للمرء أن يغوص في الأعماق، ليعرف ما هي الأسباب والدواعي الحقيقية لتلك الحرب المدمرة للإنسان، والمكان، والتاريخ، والآثار في العراق، إضافة إلى العلاقات الدولية والخروج على مواثيق وقرارات الأممالمتحدة، فهناك على صعيد التاريخ اتهام بسرقة مائة وسبعين ألف قطعة أثرية من المتحف العراقي، إلى جانب سرقة آلاف الأطنان من الذخيرة الحربية من معسكرات الجيش العراقي ومركز الأبحاث النووية الخ .. الأسباب كما نعلم كثيرة منها الأمريكي وغير الأمريكي فأمريكا: ü يريد الآمريكيون وضع اليد على أكبر مصدر لاحتياطي النفط في العالم بعد المملكة العربية السعودية وهو العراق- واتخاذ صدام حينها قراراً باحلال اليورو محل الدولار في سوق بيع النفط. ومن ناحية سياسية فإن الرئيس بوش «الابن» يومها كان يسعى لدعم واستمرار الشعبية الأمريكية، التي حظي بها الحزب الجمهوري «الحاكم» بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر - أيلول 2001م وانتخابات الدورة الرئاسية الثانية 2004 كانت على الأبواب وقد كسبها. وذلك ليس كل شيء كما هو معلوم فقد خرج العراق من حربه ضد ايران وكان مدعوماً أمريكياً وخليجياً أكثر قوة ومناعة وقدرة على تبديل التوازن في المنطقة، وبخاصة مع الدولة العبرية «اسرائيل»، التي كانت تخشى قدرات العراق العلمية والعسكرية، ومعلوم أن لاسرائيل موقعها من الأمن القومي الأمريكي والسياسة الداخلية لا ريب، ذلك أن الدولة العبرية لها لوبياتها الاقتصادية والإعلامية المؤثرة في الداخل الأمريكي، وإن كانت خسائر ذلك الخارجية كثيرة. حاصل الجمع والطرح في احتلال الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها للعراق في مارس 2003م إنه كانت له أسبابه ودواعيه غير المعلنة، والتي لا علاقة لها بدعاوى أسلحة الدمار الشامل، والعلاقة مع تنظيم القاعدة والارهاب، فلتلك الأسباب غير المعلنة دفعت الولاياتالمتحدة ب250 ألف عنصر عسكري هي 83% من القوى الغازية، إذ أن بريطانيا لم تسهم يومها بغير15% من القوات الغازية، وكانت 45 ألف عنصراً والبقية 2% كانت من دول أخرى صغيرة الحجم والتأثير، مثل كوريا الجنوبية واستراليا والدنمارك وبولندا. إن الولاياتالمتحدةالأمريكية هي صاحب القدح المعلى في ماحدث، وقد أعانها عليه آخرون من الداخل العراقي، مما جعل الأوضاع في حالة عدم استقرار مستمر جراء النزاعات السياسية والطائفية، وما حدث من تدمير للقدرات والامكانات منذ الضربة الأولى والقوات الأمريكية، تدخل الساحة الخضراء في بغداد، ولذلك كله حساباته ومردوداته السالبة في جملتها، إذ لاجدال في أن صدام ونظامه قد انتهيا، والقدرات العراقية الاقتصادية والعلمية والعسكرية التي كان يخشى منها قد انتهت أيضاً، ذلك أن مالطا العراقية قد خربت تماماً، ولكن السؤال الملح اليوم والقوات الأمريكية ترحل وتنهي مهمتها في الجمهورية العراقية هو: وماذا عن مالطا الأمريكية؟فالولاياتالمتحدةالأمريكية أصابها أيضاً الكثير من ذلك الخراب الذي أدركه الكثيرون ممن استقالوا من إدارة الرئيس بوش «الابن»، بمن فيهم وزير العدل ووزير الخارجية وغيرهما، بل أن هانز بليكس رئيس لجنة التحقق من أسلحة الدمار الشامل في العراق قد كتب كتاباً تركه خلفه لمن أراد الحقيقة.. لقد خسرت أمريكا الكثير في غزوها للعراق، ومن ذلك انها دبلوماسياً وأممياً لم تجد دعماً من الأممالمتحدة، ولا من حلفائها في حلف الأطلسي «فرنسا والمانيا» وغيرها كما الحال في حربها ضد طالبان في أفغانستان، حيث وجدت الدعم والمناصرة، كما فقدت الدعم العربي والافريقي والاسلامي.. ذلك أن المجموعة الخليجية وبقية الدول العربية ظلت بمعزل عن ذلك، وهو ما لم يحدث في حرب تحرير الكويت التي انحاز اليها فيها الكثيرون، وأشهرهم المملكة العربية السعودية ومصر من دول الجامعة العربية. إن صورة القطب الأمريكي كمدافع عن حقوق الإنسان ومواثيق منظمة الأممالمتحدة وأجهزتها قد شاهت تماماً، وهي ترتكب حماقة غزو العراق والحروب الاستباقية (Pre - emptive War) في مواجهة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما ترتب على ذلك من أخطاء ومشاهد لا إنسانية ولا أخلاقية، اعترف بها من حارب باسمها في العراق، وخرجوا منها معطوبين نفسياً ومعنوياً.. وربما ما يذكر أكثر هنا أن الشعب في العراق قد أبدى وبوسائل مختلفة عدم رضائه عما حل به من احتلال وإهدار للموارد والكرامة والاستغلال السياسي، فكانت الهجمات على الوحدات الأمريكية ومظاهر الاحتجاج والرفض الأخرى. أما في الداخل الأمريكي فقد كانت المعاناة الاقتصادية جراء الصرف بالمليارات على القوات الأمريكية القابعة في العراق وأفغانستان، والتي انتهت الى ما عرف بالأزمة المالية العالمية وتدهور سعر الدولار عالمياً، وبطبيعة الحال الخسائر في الأرواح في القوات الأمريكية المرابطة لتسع سنوات في العراق، لأسباب غير منطقية أو معترف بها لدى الشارع الأمريكي والرأي العام، وقد كان ذلك من الأسباب التي دفعت بالسيد أوباما - الرئيس الحالي- بالوصول الى البيت الأبيض بعد أن دفع الشعب ثمن مساندته للجمهوريين الجدد لثلاث دورات رئاسية في عهد «البوشين» بوش الأب وبوش الابن.. على أن الرئيس الجديد أوباما وقد شارفت دورته الرئاسية الأولى على نهايتها، قد سار على طريق بوش «الابن» في العراق، وأفغانستان رغم حصوله على بن لادن ميتاً وهو ما فشل فيه الرئيس السابق. إن أوباما لم يحقق شيئاً مما وعد به غير أنه الآن وتحت ضغوط معلومة ورغبة في العودة للبيت الأبيض في دورة جديدة، قد أعلن انسحاب قواته الأمريكية من العراق بدعوى أن الديمقراطية قد تحققت والاستقرار قد حدث، وكل شيء على مايرام إلا أن العقلاء يرددون بعد ماذا..؟ أي بعد خراب مالطا! لقد خرب الرئيس الجمهوري بوش العراق تماماً، وقد فقدت ثروتها البترولية والعلمية وسائر قدراتها التي عرفت بها، لتبدأ اليوم من جديد، وقد عادت الى الوراء سنوات وسنوات، ووضعها الاحتلال أمام تشرذم جغرافي وسياسي وأمني، وعلاقات مع دول الجوار مشكوك في عودتها.. إنها مالطا الألفية الثالثة التي ربما أضر بها انسحاب القوات الأمريكية منها أكثر من وجوده واستمراره فيها، ليوفق العراق أوضاعه ويرتبها كما يرى البعض. ومن هنا وتأسيساً على هذا كله جاز لنا اليوم في المشهد السياسي أن نقول للرئيس الأمريكي أوباما - وهو يتخذ قراره بسحب قواته من العراق - ولكن هذا القرار يجئ بعد ماذا.. بعد خراب مالطا.. أي خراب العراق الذي يشبه الى حد كبير خراب مالطا المعروف والمشهور تاريخياً، وهو خراب قد طال الولاياتالمتحدةالأمريكية أيضاً بالنظر الى الوقائع والشواهد التي تقول بذلك، فمن لم يمت بالسيف مات بغيره..