لا شك أن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة كانت حدثا تاريخيا عظيما، له آثاره الضخمة في مسيرة البشرية، يتذكره المسلمون في بداية كل عام هجري ويحتفلون به، ويستخرجون منه العبر والدروس لحاضرهم ومستقبلهم. ولكن مع هذا فإن الهجرة في حقيقتها ليست حدثا تاريخيا ماضيا ولا لحظة من الزمان ذهبت وانقضت، بل الهجرة أمر مستمر دائم يعيشه المسلم في كل لحظة من لحظات حياته. فما هذا المفهوم الدائم للهجرة؟ نقف أولا أمام نص من نصوص القرآن المبكرة التى تناولت مفهوم الهجرة، وهو قول الله تعالى: (يا أيها المدّثّر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر. ولربك فاصبر). ففي ضمن التوجيهات الأساسية لتهيأة الرسول صلى الله عليه وسلم للنهوض بأعباء الدعوة و مهام الإنذار الثقيلة الشاقة، جاء قول الله تعالى (والرجز فاهجر). والرجز في اصله اللغوي معناه العذاب كما قال تعالى : "فأرسلنا عليهم رجزا من السماء " [ الأعراف : 162 ]، ثم أصبح يطلق على كل عمل يؤدي إلى العذاب، من المعاصي والآثام والشرك وعبادة الأصنام وسيئ الأخلاق وقبيح الصفات. فكل ذلك دنس ورجس ورجز موجب للعذاب وموقع فيه، ولهذا جاء هذا التوجيه باجتنابه وهجرانه والنأي والبعد عنه. كل ذلك في سياق توجيهات أخرى هامه من ذكر الله تعالى وتعظيمه وتكبيره، ومن تطهير النفس والقلب والبدن والثوب من كل نجس، وإنكار الذات في تقديم الخير والنفع للناس دون مطامع شخصية ودون من او استكثار، والصبر لله تعالى على مشقة وثقل ما حمله من أمر الدعوة وما سيلقاه من تكذيب وتطاول وسخرية وأذي. وهكذا توضع الهجرة في معناها العام هذا كخلق من الأخلاق اللازمة الدائمة للمؤمن، فكما أن المؤمن لا ينفك عن تكبير الله تعالى والطهارة والصبر وغيرها مما ذكر من خصال في هذه الآية، فهو أيضا لا ينفك من دوام الهجرة عن كل ما يؤدي به إلى العذاب من المعاصي والشرك والسيئات والقبائح والجرائم. هذا المعنى الأصلي للهجرة هو أيضا ما أكده نص آخر للرسول صلى الله عليه وسلم يأتي في مرحلة متأخرة من تاريخ العهد النبوي بعد الهجرة إلى المدينة واستقرار المسلمين فيها. فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ). يقول ابن حجر في تعليقاته على الحديث: (وَهَذِهِ الْهِجْرَة ضَرْبَانِ : ظَاهِرَة وَبَاطِنَة . فَالْبَاطِنَة تَرْك مَا تَدْعُو إِلَيْهِ النَّفْس الْأَمَّارَة بِالسُّوءِ وَالشَّيْطَان ، وَالظَّاهِرَة الْفِرَار بِالدِّينِ مِنْ الْفِتَن . وَكَأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَى مُجَرَّد التَّحَوُّل مِنْ دَارهمْ حَتَّى يَمْتَثِلُوا أَوَامِر الشَّرْع وَنَوَاهِيه.) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج: 4 ص: 14. فمما يلاحظ أن هذا النص عن الهجرة كان متأخرا في الزمان وفي مرحلة لا حقة للهجرة من مكة إلى المدينة، وهو يؤكد أن الهجرة ليس هي انتقال من مكان إلى مكان إنما هي هجرة من السيئات إلى الطاعات ومن مكاره الله وموجيات العذاب إلى محاب الله وموجبات النعيم. وما الانتقال من البلد الذي يواجه المسلم فيه الفتن ويؤذي ويمنع من الطاعات والقيام بحقوق ربه ودينه، إلى بلد يأمن فيه من الفتن ويظهر فيه شعائر دينه بحرية وتمكن، إلا نوع من أنواع الهجرة الحقيقية وإن كان من أعظمها وأكبرها وأشقها. وقد اهتم السلف بهذا المعنى للهجرة وكثرت أقوالهم فيه، ويكفي أن نختم هذه الكلمة القصيرة عنه بقول ابن القيم الذي يقول: فله – أي المسلم - فى كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإِنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاءِ والإِقبال عليه وصدق اللجإِ والافتقار فى كل نفس إِليه، وهجرة إِلى رسوله فى حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذى هو تفصيل محابّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أَحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد.