د.يوسف محمد صديق - الأستاذ بكلية التربية بمكة المكرمة يوم العاشر من شهر الله المحرم ، الذي أشتهر بيوم عاشوراء؛ كم فيه من عِبرٍ و عظات ودروس تربوية ، مستحقة للوقفات الحيِّة و التأملات الإيمانية، للعقلاء لمن يفوتهم اغتنام النفحات فى المواسم المباركة ، لِيَجْنُوا ثمرات التربية والتزكية التعبدية . دروسٌ من قصة موسى عليه السلام و الملأ المتسلط فرعون وهامان وجنودهما ،الذين انتقم الجبار جل وعلا منهم فأغرقهم ، عظة و عبرة ؛ لمن خلفهم من الظلمة ، ليجلّي عزّ وجل ويظهر حقيقة التربية و آدابها فى الصراع بين الحق والباطل، وأن النصر المبين والغلبة مع الحق و أهله، وحسن العاقبة والرفعة للمتقين، ولو بعد حين (وَجاوَزْنا بِبَني إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) يونس: 90 تربية وهدى كما أن يوم عاشوراء تربيةٌ و هُدَىً و فضل ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم - يعني يوم عاشوراء - وهذا الشهر يعني رمضان )( البخاري2/52) إن عاشورا يمثل وقفة محاسبة سريعة ومراجعة دقيقة، والفطن من ألزم نفسه وخطمها بخطام و هدي النبي صلى الله عليه وسلم. و تربوياً تنتهز الأسرة الراقية الحضارية ساعات يوم عاشوراء فتُمسك مجتمعةً ،عن شهوتي البطن و الفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، اتباعاً و تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، مترقبين ليالي التاسع والعاشر والحادي عشر؛ من المحرم كلها أو بعضها، فى نظام تربويٍ بديع ومحاسبة للنفس برفق ، يبتدرون أعمالهم بالنية الطيبة ، متبركين بالسحور( تسحروا فإن في السحور بركة)(البخاري2/678 ) استعداداً لحمل النفس و فَطْمِها عن الحلال المباح من طعام و شراب وجماع ، مترفعين عن اللقط و الغيبة و النميمة فى سلوك و خلق تربوي رفيع (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)(البخاري2/672)رغبة فى كسب محامد السلوك، وطمعاً في ثواب المولى جل وعلا، خاتمين يومهم بالذكر، مجتمعين أُسرياً على مائدة الإفطار متلهفين لاستلام الجوائزالتربوية المتعددة كما فى الحديث القدسي( كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب ثم الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه) (البخاري2/672 ) و يستحب حث الصغار على صومه لغرس معاني التربية على الصبر و التحمل، كما في حديث الرُبيِّع قالت:( أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: مَن أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم قالت: فكنا نصومه بعد ونصوِّمه صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار) ( البخاري 3/112)إنها أصول و أسس فى التربية الإسلامية مهذبة لأهواء النفس و الحدّ من ملذاتها و شهواتها ، على هدي وسنة . التعظيم لموسى و من الحقائق التربوية الكبرى المتُجلّية في يوم عاشوراء ، ومن واقع تاريخ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، رسالة التوقير والتعظيم لموسى عليه السلام و غيره من الرسل ما يقصه حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء فقالوا هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أنتم أحق بموسى منهم فصوموا (البخاري 1/32). فى عاشوراء تقرير لحق المسلم برفع معنوياته وأحقيته وخيريته على غيره من أهل الكتب السماوية تتمثل فى قوله صلى الله عليه وسلم(نحن أحق بموسى منكم) فموسى و عيسى و إبراهيم كلهم لنا ، وأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى الدرجة الأولى من الخيرية إلى قيام الساعة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران: 110)على طريق أشرف الأنبياء والمرسلين فما تنقضي منقبة و نفحة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وتتبعها مثلها أو أفضل منها. شهر محرم وفى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل )( مسلم 2/124) و من باب التشريف سمى النبي المحرم شهر الله دلالة على فضله و خصوصيته وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: ( إن الله افتتح السنة بشهر حرام واختتمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من شده تحريمه ). و من فضائل شهر الله المحرم أن صيام يوم عاشوراء فيه يكفر ذنوب السنة التي قبله، وعن أبي قتادة (أن رجلاً سأل النبيصلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)( مسلم 2/65 ) و فى صوم عاشوراء تؤصل التربية الإسلامية تميز أفراها و مجافاتهم للتبعية ، فقد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في آخرعمره على أن لا يصومه مفرداً بل يضم إليه يوماً آخر مخالفةً و استقلالاً عن سلوكيات و قيم اليهود والنصارى وشرعتهم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع )أي مع العاشر مخالفةً لأهل الكتاب قال: ( فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله )(مسلم2/797 ) و أكمل صوم عاشوراء أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم.