لا شك أن الأديان السماوية وغير السماوية ، تعد من أقدس مقدسات الأمم التي ينبغي عدم الإساءة إليها؛ بل احترامها و تقديسها ؛ فلهذا تسعى جميع الأمم في مناهجها التربوية أن تضم حيزا كبيرا، يهتم بالدين و تعميق فهمه لدى المواطنين ، لما للدين من أهمية كبرى في تشكيل الوحدة الوطنية في أي بلد ؛ ولأن الدين يعتبر أفضل وسيلة لتعبئة الجماهير و تشحينها ودفعها إلى تحقيق المطالب الوطنية و القومية . و تسعى الأمم إلى احترام دياناتها القومية ، وديانات غيرها من الأمم؛ و عند صياغة القوانين الدولية للأمم المتحدة ، نصت على وجوب احترام الأديان و عدم المساس بها أو بأهلها ، و ملاحقة الإنسان بسبب دينه ؛ كل ذلك ينصب في إدراك فهم طبيعة الإنسان، و أهمية الحس الديني لديه . و الدين يعد من أهم مظاهر ثقافات الأمم و أقوى أنواع الثقافة، ويعد الدين ضمن عموميات الثقافة التي ينبغي أن تضمن في المناهج في جميع مراحل التعليم . و رموز الدين من الأنبياء و العلماء و المصلحين و القادة النبلاء ؛ يعدون القلب النابض للدين وآلية وجوده وتحقيقه على الأرض ؛ الأمر الذي جعل أتباع الديانات ينزلونهم منزلة كبرى ، واعتبروهم رموز شرف الأمة ؛ إن مس أحدهم ، فقد مست الأمة في صميم شرفها و أعز ما تمتلك ، و هو هذه الرموز ؛ و من هنا حاولت القيم الاجتماعية للأمم ، و مواثيق القوانين الدولية ، حماية حرمة هؤلاء ، لأن المساس بهم طريق لإثارة القلاقل ، وفتح لباب النزاعات و الصراعات ؛ و هو أمر ليس في صالح البشرية . تداعيات الإساءة إلى الأديان و رموزها لا شك أن المتتبع لتاريخ الإنسانية، يعلم علم اليقين أن الإساءة إلى الأديان ورموزها، يعد من أهم أسباب الحروب و النزاعات البشرية ؛ وذلك لأهمية الدين في الضمير الإنساني و حسه ؛ الأمر الذي جعل الكثير من الفلاسفة والمفكرين، يدعون بضرورة تنحية الدين عن السياسة ، و الأحداث الأخيرة التي أسيئ فيها إلى رسولنا صلى الله عليه و سلم بواسطة الرسوم في الدانمرك، ليست بعيدة عن الأنظار و لذاكرة ، و ما أحدثته من ضجة علي المستوي الإسلامي والعالمي.ولعلنا في هذه النقاط سنحاول تسجيل أهم التداعيات التي تترتب على لإساءة إلى الأديان ورموزها: 1-إثارة القلاقل و الفوضى ، حيث سيثور أهل الدين الذين تم الإساءة إليهم ؛ ويردون على الفعل بقوة بشكل جماعي ، تغيب عنه ضوابط التحكم ، ويشحنه الغضب ، و الرغبة في رد الكرامة، و الطرف الأخير كذلك ؛ سيسعى للدفاع عن وجهة نظره ؛ وهذا ما يوتر الموقف أكثر ، و يجعل الطرف الممسوس في حالة تشنج جماعي ؛ يسعى للتعبير عن نفسه بأي شكل يؤكد وجوده . 2- زعزعة الأمن الوطني و القومي ؛ لأن الحكومة ستسعى لمنع الإضرابات و التظاهرات الجماعية الغاضبة ؛ و تدعو لاستعمال الحكمة ، وهو ما لا يتفق مع التوجه الجماعي الغاضب ، فيحدث الصدام بين الطرفين ؛ و هو ما يؤدي في كثير من أحواله إلي قتلي وجرحي ومسجونين . 3- خرق القوانين الدولية ، و أسس الديانات ، ومسلمات المنطق ، وهذا بدوره يفتح بابا عظيما من الجرأة على القوانين و عدم احترامها ، والتلاعب بها ، وإلغائها كليا ؛ وهو ما يجعل الناس يفقدون الثقة في القوانين ؛ ويدفع البشر للعودة لشريعة الغاب . 4- خلق العداوات بين أهل الديانات المختلفة ،؛ وتهيئة أسباب النزاعات والحروب، وهو اتجاه يخالف الاتجاه العالمي العاقل ، الساعي إلى تقارب الأديان و تفاهمها، و فتح أبواب الحوار .. 5- نزع الثقة بين أصحاب الديانات ؛ وهذا ينعكس على أوجه التعاون الإنساني في المجالات العلمية و السياسية و الاقتصادية . 6 – إلحاق الأضرار المادية بالطرف المعتدي من طرف المعتدى عليه، على غرار فعل الكثير من الدول الإسلامية في قطع علاقتها التجارية والاقتصادية بالدانمرك و منع بضاعتها من دخول أسواقها . 7- فتح باب الصراعات الدولية ، و جر أطراف كانت خارج الدائرة إلى دائرة الخلافات ، التي ستصبح في النهاية عداوات تؤدي إلى حروب . 8 – تغييب المنطق و استخدام الوسائل العقلية الحكيمة في رد الإساءة ، والاستغناء عنها بوسائل العنف و القوة . 9 – تقوية الإرهاب و الحركات المتطرفة ؛ لأنه- في نظري- لا يوجد عامل في نشأة الإرهاب أقوى من عامل الإساءة إلى الدين و رموزه ؛ لأن الطرف المعتدي عليه ؛ سيكون في حالة تشنج ؛ خاصة حين لا يسمح له بالتعبير عن نفسه وعرض وجهة نظره ؛ ويعامل بمكيالين ؛ و الواقع خير شاهد على ذلك، فإذا اعتدي على الإسلام أو رموزه ؛ اعتبر ذلك من حقوق حرية التعبير ، لكن مع اليهودية يعاقب كل من يتعرض لها ؛ بل يكفي أن يوجه لشخص تهمة المعاداة للسامية ليصبح ملاحقا في حياته و مهددا في مستقبله ؛ و خاصة إن كان سياسيا 10- السماح لوجود خط و اتجاه فكري متعصب ضد الديانات ؛ سيسعى للمساس بها ، و محاربتها ، و التقليل من شأنها و دورها في حياة الإنسان ؛ وبالتالي طرح الفكر البديل عن التدين ، و العمل على إيجاد فلسفة له. 11- الإساءة إلى الأديان ورموزها، تعتبر أكبر عامل هدم لمشروع حوار الحضارات و الأديان و التقريب بينها ؛ و هو توجه عالمي حديث، له الكثير من الأنصار ؛ و خاصة لدى النخبة المثقفة وأصحاب الفكر و السياسة ، والتيارات المدنية و الاجتماعية . 12- إهانة الشعور الديني و إثارة النعرات المذهبية و العنصرية . 13- استخدام وسائل غير مشروعة و غير قانونية في الإساءة خفية تنطلي على البسطاء ؛ و تبرير مشروعيتها ؛ مثل الفيلم الذي أنتجه النائب البرلماني الدانمركي المتعصب بعنوان ( الفتنة ) و الذي يخلط فيه بين صور العنف الإرهابي و الإعدامات في الدول العربية الإسلامية 14- العودة إلى الماضي ، وإحياء جوانبه السلبية، المتركزة على الصراعات الدموية؛ كادعاء أن الإساءة إلى الرسول بالرسوم، علامة علي وجود حرب صليبية جديدة متعصبة ضد المسلمين ، ينبغي أن يستنفر جميع المسلمين لإذكائها وإشعالها . 15- إن الإساءة إلى الأديان و رموزها ؛ يعد أهم عامل لتوحيد الأمة ، وتعبئتها لمجابهة العدو ، وإن كانت تعاني من انشقاقات و خلافات داخلية ، وهو أمر لا يسعد العدو الذي كان قصده من الإساءة النيل من وحدة الأمة ومحاولة إضعاف شأنها . المعالجة إن ظاهرة الإساءة إلى الأديان و رموزها من الظواهر الخطيرة التي تهدد الحياة البشرية ، و تزعزع استقرارها ، و لهذا لا بد من تحديد آلية لمعالجتها بصورة تكفل للحياة البشرية الاستقرار والأمن و تحقيق المصالح المشتركة ، ولعل المعالجة السليمة لهذه الظاهرة تكون بالقيام بما يلي : 1- الإقرار بالاختلاف الثقافي و الاعتقادي ، و التعاون وفق ما يحقق مصالح كل فرقة في ضوء القيم المشتركة قال تعالي ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا ) المائدة من الآية 48 2- اعتماد منهج الحوارفي التفاهم و الرد ؛ وهو منهج مؤصل في الإسلام ، دعا إليه القرآن ، و حدد ضوابطه: ( أن يكون موضوعيا وبالحكمة والحجة والبرهان ، والجدال بالتي هي الأحسن ، وعدم النيل من الآخر والتطاول عليه ) ، قال الله تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم وإلهنا و إلهكم إله واحد ونحن له مسلمون )العنكبوت آية 46 .وهذا الحوار القائم على هذه الضوابط يحفظ لأهل كل دين معتقداتهم و خصوصياتهم ولا يعني الانصهار والاندماج والتنازل ، وإنما القصد العمل على ما فيه مصلحة الإنسان عموما و يحفظ كرامته . ولهذا الحوار نموذج حي في سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم، حيث عقد صلى الله عليه و سلم صلحا بين اليهود والمسلمين ليتعايش الإسلام واليهودية في المدينة، وفق مبادئ وأسس تحقق مصالح الطرفين . 3- تعريف أهل كل ديانة بديانتهم بصورة صحيحة سليمة لا لبس فيها؛ وهذا يتأكد في حقنا نحن المسلمين أكثر، حيث شوه صورة الإسلام ، وألصق به ما ليس منه في الداخل و الخارج؛ الأمر الذي يحتم علينا التعريف به ، وما يمتلكه من قيم ومبادئ تهيئه ليكون الدين الذي يكفل المستقبل للحياة البشرية ، وعلينا في هذا الصدد تصحيح صورته في الإعلام الغربي ، وتصحيح صورة رجاله و دوله . 4- إبراز الدور الذي يمكن أن تقوم به الديانات ورجالها في حل المشكلات البشرية، ومواجهة التحديات المختلفة، و على رأسها مشاكل البيئة . 5- فضح نوايا أصحاب اتجاه صراعات الحضارات و نهاية التاريخ وبيان هدفهم، وهو السيطرة على شعوب العالم وفرض الثقافة الموحدة عليهم ( ثقافة العولمة ) 6- التعريف بثقافات الأمم المختلفة ، ومحاولة التقريب بين جوانبها الإيجابية، التي تخدم صالح البشرية، بغض النظر عن الديانة أو الجنس 7- التعاون على حل مشكلات الأقليات الدينية والعرقية ، وتوفير مناخ صالح للتعايش الاجتماعي و الثقافي. 8- التأكيد على أن الحضارة إنتاج بشري، أسهمت فيه جمع الأديان وجميع الأجناس بدرجات متفاوتة ، ويجب توظيف هذا الاشتراك بما يحقق السلام العالمي وحمايته . 9- تكوين هيئات عالمية لحوار الأديان و التعريف بها ، بما يكفل احترام كل دين للدين الآخر، وتزويدها بما تحتاج إليه من آليات لأداء مهامها . 10- عقد المؤتمرات والندوات بين أتباع الأديان و المذهب الفكرية، ذات التأثير على الرأي العالمي ،ودعوة العلماء والمفكرين إليها؛ لتفعيل الحوار بين الأديان و الحضارات ، وقطع الطريق علي المسيئين إلى الأديان ورموزها . 11- فتح الحوار مع المسيئين إلى الأديان ورموزها ، لبيان حقائق الأديان و مبادئها ؛ ولعل ذلك يعد خير وسيلة لتراجعهم عن مواقفهم ضد هذه الأديان . 12- تجنيد جميع المؤسسات الدولية والعالمية لمحاربة ثقافة الكراهية و العنصرية ، و الاستعلاء على الغير ، وتضمين ذلك في المناهج الدراسية ، و العناية به في الوسائل الإعلامية و الجماهيرية المختلفة . 13- مطالبة الأممالمتحدة وأجهزتها المختلفة بمناصرة الدين ، الذي تم الإساءة إليه ، وإدانة ذلك ، وملاحقة الفاعلين له قانونيا ، ومعاقبتهم ، وفق حجم الإساءة وآثارها الاجتماعية . 14- العمل على حماية القيم والأخلاق من دعوات التحلل الأخلاقي بدعوى الحرية الفردية . 15- دراسة ظواهر الإرهاب و العنف والإساءة إلى الأديان ورموزها ، والعمل على التعاون بين الدول و الأديان في سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل . 16- التحكم في مستوى ردة فعل الطرف الآخر ، وعدم التنزل مع الخصم في أسلوبه في استخدام السب ؛ لأن الرد عليه بنفس الأسلوب ، قد يطال الذات الإلهية ، قال تعالى (ولا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلى الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) فصلت آية 34 36 هذه الآية توضح فلسفة الإسلام في ضبط النفس عند توجبه الإساءة إليها؛ وخاصة الإساءة التي تنال الدين و رموزه ؛ وقد صور الله هذه الفلسفة في غير آية كقوله تعالى( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) النحل آية 125 وللجوء إلى الرفق و اللين أولوية على ما عداهما من الوسائل حتى مع الجبابرة ، قال تعالى (اذهبا إلى فرعون إنه طغى ، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) طه آية 43-44 ورب العزة جل جلاله استخدم الحوار مع إبليس، الذي كان يتهكم من سيدنا آدم ، وقد سجل القرآن هذا الحوار الهادي في أكثر من موضع . الخلاصة ونخلص إلى إن الإساءة إلى الأديان و رموزها، يعد صنعا غير حضاري ، وأن له تداعيات خطيرة على حياة البشرية ،و تحول حياة البشر إلى فوضى ، تستخدم العنف ، وتهمل لغة العقل و الحوار ، وتغذي الإرهاب و العنف . وأن أفضل وسيلة لعلاجها الاحترام المتبادل بين الأديان ، واعتماد منهج الحوار ، والتعاون وفق ما يحقق المصالح المشتركة لاتباع الديانات ، ويضمن استمرارية الحياة البشرية، واستغلالها لثروات الطبيعة بشكل عادل .