نحو مجتمع إسلامي عنوان كتاب أحد رواد الفكر الإسلامي وهو الأستاذ محمد قطب الذي تتلمذ على يديه نفر لا يستهان به من جيلنا وهو كذلك صاحب كتاب جاهلية القرن العشرين ، وكتابات محمد قطب متعددة ، مثل منهج الفن الإسلامي الإسلامي ودراسات اسلامية وغيرها ، ولعله من أهم دعاة استئناف الحياة الإسلامية من بعد إنقطاع طويل ، وليد الإنحطاط الداخلي والذي كانت نتيجته سقوط الخلافة الإسلامية والفقر والهزيمة وقيام اسرائيل وقفل باب الأجتهاد والهرولة إلى الغرب . وفي واحدة من كتبه ، ناقش الأستاذ المرحوم محمد قطب قضايا التحول الإسلامي وذكر أنه هم أن يعقد فصلا باسم « نحو مجتمع إسلامي متحضر» ولكنه راجع نفسه وحذف كلمة متحضر ، لأنه رآها زيادة وتكراراً لأن المجتمع الإسلامي وكفي هو المجتمع المتحضر. دارت هذه الخواطر ، حينما أخذت في تقليب الإصدارة المنسوبة للبروفيسور عبدالله الطيب ، بعنوان «نظرات في المجتمع الإسلامي» ، والصادر من دار عزة والذي تكفل بنفقات طباعته الأستاذ كمال حمزة ، والكتاب صغير لا يتجاوز عدد صفحاته المائة صفحة من القطع الصغير، وقد انتبهت الاستاذة الفاضلة جيرازلدا الطيب إلى الدراسة حينما نبهها احد تلامذة الاستاذ عبدالله من نيجيريا إلى أن الأستاذ عالج هذا الموضوع حينما كان يعمل هناك- وحينما رجعت الأستاذة الفاضلة إلى أوراق عبدالله وجدت المسودة وقامت بنشرها . ولكن ماذا يقول الأستاذ في دراسته ، علماً بأنه مضى علي تأليف هذه المسودة قرابة الربع القرن او يزيد ، علما بأن البروفيسور عبدالله الطيب لم يعرف عنه تفرد في مجال الفقه وقضايا التشريع والعمل الإسلامي وإن اشتهر بإحاطته بآداب اللغة العربية وأشعارها وله في ذلك كتابات موسوعية ، كما اشتهر بتفسيره المبسط للقرآن الكريم والذي كان يقدمه عبر الإذاعة السودانية وله مؤلفات في الاحاجي السودانية، بالإضافة إلى أشعاره وحكاياته وأسماره. وكذلك فإن عبدالله الطيب صاحب قدم في الثقافة العالمية ويكفي شهادة له المقدمة التي كتبها لكتابه هذا ، وهي مقدمة مركزة وجامعة. وكتبها ربما بكل إحاطته وخبرته بالثقافتين العربية والغربية وكشف فيها كيف استقت واستفادت الثقافة الغربية من الأدب العربي ولعل ما فيها من معلومات مختصرة ومركزة لايعرفها إلا الراسخون في هذا الفن . وقد صدّر هذه المقدمة بعنوان «دورالإسلام في تنوير العالم» حيث يقول « ليس عند أمة نص من الحكمة أو كتاب مقدس يبلغ هذا المبلغ من البركة والوضوح في رفض كل نوع من العنصرية عرقية كانت اولونية .. ليس في كتب الحكماء من الهند واليونان إلى فلاسفة العصور الحديثة بما فيها روسو وكانت وماركس نص يرقى إلى هذا المرقى. اعلى ما بلغه ماركس في صحيفة مذهبه الذي نادي به أن قال يا عمال الارض اتحدوا.. ولكن لم يذكر شيئا يؤلف قلب العامل الابيض إلى العامل الاسود بأنه لا فضل له عليه قبل القيد وبعده . المخرج والخلاص عند الأستاذ المرحوم عبدالله الطيب يكون بالتسامح الديني وأحياء علوم الدين ، والتسامح تسامح في داخل الدين نفسه وتسامح خارجي نحو الأديان الأخرى ، وينتهي به التسامح الداخلي إلى عدم قبول رؤية قتل المرتد.. بدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أجاز رجوع المرتدين إلى أهلهم بعد صلح الحديبية. وأن سيدنا أبابكر نفسه لم يفكر في أفراد ارتدوا وإنما فكر في مجموعات ارتدت وجعلت تهدد كيان المجموعة الإسلامية الناشئة ، بل قد كان التفكير كله منصبا على ناحية عقائد لأفراد ما كان سيدنا عمر ليرد سبايا الردة وأسراها . وبعد الفتنة الكبرى انقسمت المجموعة الإسلامية إلى فرق وعصبيات كلها مبنية على نظرية الإرتداد أي كلها تستحل دماء الفرق الأخرى ، ثم برزت الشعوبية كرد فعل لاحتكار دين الإسلام بحيث يكون العربي اصيلا فيه . والاعجمي دخيلا عليه ، ويشير إلى أن العباسيين ممثلين في المامون وهم أهل سنة، هم من عذبوا ابن حنبل المؤسس الحقيقي لمذهب أهل السنة والجاعل له ، وألف الزمخشري كتابا نفيسا في تفسير القرآن على ما فيه من انفاس الاعتزال ، ومن المؤسف حقاً ان كثيراً من الآراء التي كان يقول بها كثير من كبار مفكري الإسلام في زمان مضى، قد صارت الآن في حيز المحظور المنهي عنه وأدى التحجر إلى ولادة مذهب متطرف بعيد جداً عن حق الاجتهاد المحض . ويدعو عبدالله الطيب إلى نبذ التعليم المعهدي الديني وأن يصبح التعليم الديني طرفا من التعليم الجامعي وألا يجعل الدين مادة للحصول على بكالوريوس أو أية شهادة من هذا الضرب في أول الأمر ، وأن يعهد بهذا إلى الأكاديميات العليا للبحث في الأمور الدينية وأمر إعداد الباحثين بحيث ينتقل هم الاجتهاد والدرس الديني إلى النخبة بدلا من العامة المجهزة تجهيزاً سطحياً ، لأن الأمور الدينية بأجمعها الآن ميدان للاجتهاد والتأويل الواسع والذي لا يقدر عليه إلا العلماء . فمثلا ظاهرة الخفاض الفرعوني الاسترشاد فيها بآراء الأطباء الفقهاء ، وكذلك أنه لا يمكن إيجاد إصلاح عمراني على نسق أوروبي إن لم يوجد معه إعداد للمجتمع واستعداد للتغيير والتجديد الذي يلائم مثل هذا الاتجاه العمراني علما أن التوفيق بين أساليب الحياة العصرية ذات الاندفاع وراء السلطان تتعارض مع أسلوب الحياة الإسلامي المبني على الشك في السلطان والثقة بالله. ثم يقوم المرحوم د. عبدالله الطيب بقراءة سريعة لحركات الإصلاح الديني كحركة الوهابيين والسنوسيين والمهدي في السودان وعثمان بن فودي والأخوان المسلمين بمصر ويربط مابين اصطدام الوهابيين بمحمد علي والأخوان بجمال عبد الناصر ، ومابين الخديوي والمهدي في السودان وأن مرد الاصطدام طلب السلطان وصفاء الدين علما بأن جميعهم لم يكن لديهم أدنى إلمام بما طرأ على الكون من مستحدثات جديدة ، وان ما فشل في عمله محمد علي في الجزيرة العربية تقوم بعمله مشاريع الزبد التي هي أشد فتكا بمذاهب الإصلاح الديني من محمد علي . ثم يستعرض تجربة ميرزا غلام أحمد « القاديانية «ويشبهه بمهدي السودان حيث شطب كلاهما التاريخ الإسلامي وسعوا للاتصال بمنابع الشريعة وهو حل يقوم على الباطن الصوفي ولكن تخالف المهدية الوهابية في الباطن الصوفي وتتفق معها في القتال أو الجهاد، ويري كل هذه الحركات غير قادرة علي الوفاء بفكرة المخلص أو المخرج باستثناء جهود محمد عبده ولكن ينتقد المدرسة التي تتكلم عن الإعجاز العلمي في القرآن ويعتبر ذلك مجرد سفسطة وإخراج للآيات عن مقاصدها . وينتقد حركة الأخوان المسلمين لوجهها السلفي وخوضها في مجال السياسة العملي ودعوتها للرجوع للأصول القديمة ، ولكن تغض الطرف حينما تصطدم بالواقع تميل إلى المساومة ، فمثلا المعاملات الإسلامية كلها تجعل الرجال قوامين على النساء ، ولكن الإخوان يماشون حركة التحرير العصرية ولايمكن قبول هذه النظرة العصرية دون الخروج على أصل المعاملات في الإسلام ، ويتوقع أن يبوخ حماسهم ويكونوا فرقة من الفرق ، تتعصب لمذهبها في الظاهر وتعاني سائر مشاكل التناقض الاجتماعي ، ولا يستبعد أن تتطور حركة الإخوان في مصر حتى تكون شبيهة بالمنظمات الشيوعية وينتقد خالد محمد خالد لأنه غير مقتنع بعقوبة السرقة وغير قادر على أن يعبر عن عدم اقتناعه هذا . ويلخص الأستاذ المرحوم عبدالله الطيب رؤيته «أن جميع الحركات الدينية من الوهابية إلى الإخوان ، قد أخفقت إخفاقا تاما في أن تنفذ إلى أعماق مشكلة المجتمع الإسلامي الروحية ، كما أنها أخفقت إخفاقا تاما في الميدان الإسلامي السياسي» إذاً ما الحل ؟ هل يتم استيراد الحل من الأمريكان البيضان ، الذين كانوا إلي أواخر القرن الماضي يطبخون عبيدهم في الماء الساخن ، إذا اتهموهم بالزنا أو نحوه لا يرى المرحوم الأستاذ عبدالله ذلك ولكن يرى أن الإسلام هو عصب المجتمع ومسكته وقوامه وعزته ، مما جعل جور الأمراء وأصحاب السلطان والثراء طافياً فوقه كالزبد والإسلام فيه اتجاه الزهد المحض والسعي إلى الدار الآخرة وآل أمر هذا الاتجاه الزاهد إلى التصوف الخالص والاتجاه الآخر هو اتجاه الفقه وعلومه المثالية تبت في أنواع السلوك المثالية وتضع العبارات والمعاملات في دائرة واحدة من دوائر البحث لأنهما كانا أيام الصحابة ظاهرتين متكاملتين تمثلان دينا واحدا ، ولكن ما بعد ذلك قبلت طائفة فقهاء أن تعمل للسلطان ونفرت أخرى نفورا شديدا . وحينما جاء الإمام أبو حامد الغزالي قال بلهجة صريحة إن السلطان جائر ، وإن السبيل إلى إصلاحه عسير بل متعذر- وعلى دربه جاء الشيخ عبدالقادر الجيلاني وقبل المجتمع الإسلامي الافتراق الأبدي بين جور السلطان وانتظار رحمة الرحمن وأدت هزائم المجتمع والدولة لاختلال توازن المجتمع المسلم . ربما يصدم تشخيص المرحوم عبدالله المخلصين وأنصار الشريعة ولعل عبدالله قد تأثر بالثقافة الإستشراقية التي لا ترى الدواء في التطبيق الحرفي للشريعة وإنما اتخاذ الأسباب المؤدية لمقاصد الشريعة من حفظ للدين والنفس والعرض ، وكذلك لا نوافق د. عبدالله في مذهبه في الانتقاص من شأن التعليم الديني لأن هؤلاء هم عصب المجتمع يعلمون الناس الدين ويقودونهم في المساجد ويعلمونهم الميراث والزواج وكثيراً من تعاليم الدين المجتمعية ، وعلى أية حال يمكن أن يتكامل عمل هذه الطبقة مع فكرته بإقامة أكاديميات إسلامية للنخب القادرة على الاجتهاد ومقابلة تحديات الحياة العصرية ، ومهما يكن ، طرح المرحوم الأستاذ أفكارا جريئة خارجة عن مألوف السياق الفكري الموجود ، وهي تصلح مادة للحوار بين العلماء وأهل الذكر ولا تنفع مادتها لأصحاب الثقافة العامة الذين مبلغ علمهم تكفير الآخرين أو تأثيمهم طالما خرجوا عن المألوف الذي عرفوه وعاشوا له .